الخميس، 28 أغسطس 2008

الجودة في التعليم .. الصراحة راحة وأمانة


تنشط منذ فترة "حركات" بمسمي تجويد التعليم، تُزود بالوسائل الإعلامية اللازمة لإظهارها، مرئية ومسموعة ومكتوبة. ولما كان التعليم جدٌ لا هزلَ فيه، فإنه من الضروري أن نتناول ما يثار عن تجويده ومدي إمكان ذلك، هذا علماً بأنني كنت أول من نشر ترتيب الجامعات الخمسمائة الأكثر كفاءة علي مستوي العالم، وذلك في مقالين أحدهما بصفحة الشباب والتعليم بأهرام 31/1/2005 والآخر بجريدة الوفد بتاريخ 11/12/2004، ولن أتعرض لطمس اسمي في النشر بالأهرام مع ما في ذلك من مدلولات.بداية، الجودة في التعليم الجامعي تحديداً تهدف إلي "إنتاج" خريج قادر بما تعلمه علي إفادة واقعه وعلي التأقلم مع متغيراته ومستجداته، الإفادة تكون بحسن أداء العمل وبالقدرة علي تطويره، والتأقلم يكون بالقابلية لتعلم المزيد والخروج من أُطر القوالب الجامدة والفهلوة. الجودة في "إنتاج" الخريج لا تأتي مصادفة، لكنها من صنع بيئة اجتماعية لاعوج فيها ومناخ علمي سوي وبالقطع واقع سياسي فيه الرؤية والإخلاص وصدق التوجه.البيئة الاجتماعية التي تقدر العلم وتحترمه ترفض الخرافات والخزعبلات، تهئ الطالب نفسياً لتلقي العلم. واقعنا الاجتماعي يستحيل أن يؤدي هذه المهمة، لانخفاض الدخول وتفشي البطالة، وهو ما يشتت الاهتمام بالعلم لصالح السعي للرزق، الطالب إما يعمل أو لا يجد ما يسد مصروفات تعليمه، وفي كلا الحالين يتعثر. ومع مأساة الثانوية العامة وحشر الطلاب في دراسات لا يرغبونها أو لا يقدرون عليها نشأت مشكلة الكراهية المتبادلة بين الطالب والمؤسسة التعليمية، تحولت بالتالي العملية التعليمية إلي مجرد شكل، طالب في مكان يُفترض فيه العلم، يدخله ويخرج منه بعد أعوام لا حدود لها بلا علم حقيقي. الطالب "الخامة" دُفِع لمؤسسة تعليمية دون أن يكون مستعداً لها أو راغباً فيها أو قادراً عليها، من المستحيل في أغلب الأحوال أن يُنتج أو يطمح في مستقبل تُعتمه أشباح البطالة وتدني الأجور.من الناحية العلمية، فإن المؤسسة التعليمية عليلة، أعضاء هيئات التدريس يكفون بالكاد معيشتهم، يتقلبون في كل مكان يزيد دخلهم، بالمخالفة للقوانين، بتراخي إدارات الكليات. الثوابت الإدارية انهارت، هناك من يجمع بين وظيفتين، هناك من يتغيب، هناك من يحضر ويؤدي بالحد الأدني، علي مرآي ومسمع من إدارات جامعية مشغولة بهموم المد لها أو تصعيدها. كيف تكون الجودة إذن والعنصر البشري المطلوب منه تنفيذها لا يعترف بها ولا يثق في صدقها؟ أعضاء هيئات التدريس بالجامعات عازفون عنها، متباعدون عن إدارات الكليات، عمداء الكليات ووكلاؤها مسيرون في "حركات" الجودة. أما المعامل والمكتبات، وهي من أركان العملية التعليمية والبحثية فلا وجود لها، قاعات جوفاء فارغة إلا من أجهزة تهالكت وكتب اصفرت بفعل الزمن. انحصرت الجودة في استيفاء أوراق واستمارات، لتلميع صورة العمداء ووكلائها ومن فوقهم وتصعيد من وجدوا فيها طريقاً لترقية فشلوا فيها علمياً، جودة ورقية ينقصها التعليم الذي أنشئت من أجله!!أما الواقع السياسي، فما أكثر ما طرح من شعارات مثل إعطاء الفرص للشباب، واختيار الوزراء ممن يجيدون اللغات، والنهوض بالمرأة والطفل، والحفاظ علي حقوق الطبقة الكادحة، وتطوير الصناعة والزراعة، ما أكثر ما أعلن عن افتتاح مشروعات وطرق وكباري، وغيره وغيره. العائد ظهرت فيه فائدة لأقلية مقصودة مع بطالة مستمرة للشباب والكبار وهروب جماعي عبر البحار والصحاري وارتفاع في الأسعار وبيع للأصول فكاً الديون وتعثر لمشاريع أُنفقت عليها ملايين الجنيهات. الشعارات لم تجد صدي لأنها لم تحقق ما وعدت به لعقود، لماذا إذن يُصدق شعار "حركة" الجودة؟ لماذا لا يكون موضة مثل ما سبقه؟ لماذا لا يكون وسيلة للإلهاء لا للتجويد؟ ما الذي يدفع أعضاء هيئات التدريس للتجاوب معه وهم مهمشون مبعدون محاربون؟تجويد التعليم هدفٌ عظيمٌ، لكن الفاصل بين تحقيقه والتغني به وملء استماراته واسع جداً. من الضروري البدء بتوفير مقومات الجودة من إصلاح أحوال البنية البشرية من أعضاء هيئات تدريس ومعاونيهم وتوفير المكتبات والمعامل بما تفرضه من ميزانيات بدلاً من تبديد القليل المتاح منها علي "حركات" الجودة ومهرجاناتها وشعاراتها. يستحيل أن تكون الجودة بالمجان، وحتي لو توفر المال فإنه لن يحققها إلا بتضافر كل العناصر من بيئة بشرية راضية مقتنعة ومعامل ومكتبات ومناخ يحترم العلم ويقدره. الصراحة واجب ديني واجتماعي وعلمي، لا يعترف بها مثيروا الشعارات، ينسون ما سبق وأطلقوه، وحدهم ينسون، ويتناسون، الواقع شديد الوضوح، ابحثوا فيه عن الجودة، لعلكم تجدوها، في أي مجال، بعد عقد، بعد قرن، العالم لن ينتظر، لقد حققها ويجودها،،

ليست هناك تعليقات: