سبَقَ وأن عَرَضت ما يتعرضُ له التعليم الهندسي من مخططاتٍ تُدَبرُ بحجةِ إصلاحِه وما فيها إلا التأكدُ من تمامِ القضاءِ عليه، وما البطالةُ السائدةُ بين المهندسين إلا دليلٌ علي محنةٍ طاحنةٍ ضرَبَت مهنةَ الهندسةِ من جراءِ ممارساتٍ خاطئةٍ ومن استمرارِ التمادي فيها، وكأن العزةَ واجبٌ وكأن ما يتبعُها من آثامٍ قدرٌ علي هذا البلدِ.
فقد استمرَ تسريبُ دعاوي لا تخمدُ مُناديةٍ بقَصرِ الدراساتِ الهندسيةِ علي أربعِ سنواتٍ باعتبارِها المُنقذُ لمهنةِ الهندسةِ مما هي فيه من تردٍ؛ دعاوي تجدُ مسارَها إلي الصحفِ باسماءِ من يشغلون مناصباً إداريةً في الجامعات أو من المُستمرين بعد المنصبِ في الدائرةِ الضيقةِ المهيمنةِ علي التعليم العالي. تبدأُ تلك الآراءُ دوماً بنعي حالِ التعليمِ الهندسي وبأنه قاطرةُ التقدمِ وتنتهي بأهميةِ مهنةِ الهندسةِ ويتم في وسطِ الكلامِ زحلقةَ حكايةِ قصر الدراسةِ الهندسيةِ علي أربعِ سنواتٍ مع ضرورةِ دمجِها مع الدراسةِ في المرحلةِ الثانويةِ. نفسُ نهجِ المؤتمراتِ التفصيلِ، التيك آواي، التي يُنتقي محاضروها وحاضروها بتوصياتِهم الجاهزةِ؛ وهي ذاتُ محنةِ تعيين القياداتِ الجامعيةِ، يُرددون توجهاتِ من أوجدوهم، بدلاً من انتخابِهم ليكونوا مُعبرين عن همومٍ حقيقةٍ.
تناسي هؤلاءُ في دعاواهم أن تدهورَ الدراساتِ الهندسيةِ نتيجةٌ حتميةٌ لسياسةِ الوزارةِ، المسئولةِ عن التعليمِ العالي وأضافَت إليه الجودةَ، والتي أسرَفَت في قبولِ الطلابِ في كلياتِ الهندسةِ، وفتَحَت معاهداً وكلياتٍ خاصةً تُسمي هندسيةً ضزَبَت بقسوةٍ كل ما يَمُتُ للهندسةِ من جلدٍ وبحثٍ وأمانةٍ واعتمادٍ علي النفسِ. الآن يدخلُ طلابُ المرحلةِ الثانويةِ إلي كلياتِ الهندسةِ الخاصةِ بمجموعِ 64% وهو ما لا يدلُ إلا علي تدهورِ المستوي العلمي وتواضعِ الإمكاناتِ العقليةِ والمهاريةِ، لم تقفْ الكارثةُ عند هذا الحدِ بل امتدَت إلي فتحِ كلياتِ الهندسةِ أمام طلابِ الثانويةِ العامةِ من مجموعةِ العلمي المتأدبِ، وكأنها ناقصة تدهور فلا بدَ من المزيدِ.
لما ألغوا السادسةَ الإبتدائيةَ منذ عدةِ سنواتٍ ظَهرَت فرقةُ مُنشدين تُرَدِدُ بأن في ذلك توفيرُ أموالٍ، تَسولوا باسمِ الحكومةِ، نَفسُ ما يترددُ الآن لإلغاءِ السنةِ الإعداديةِ بكلياتِ الهندسةِ. وكأن التوفيرَ لا يكون إلا في التعليمِ الذي يجبُ أن تبيعَ الحكومةُ كلَ ما تملكُ من أجلِه؛ لم يدافعوا عن إبقاءِ السنةِ الإعداديةِ بالدراساتِ الهندسيةِ في مقابلِ التوفيرِ في علاجِ من هبَ ودبَ علي نفقةِ الدولةِ، في الأسفارِ هنا وهناك، في وفي وفي... الجوقةُ التي هاجمَت أيامَ طه حسين وبإشارةٍ من وزير التربيةِ والتعليمِ مدَحَته، موجودُ منها كثير، تظهرُ في مكانٍ آخرٍ، علي كلِ لونٍ يا باتيسته، أُسُ البلاءِ.
ضُرِبَت مهنةُ الهندسةِ في مقتلٍ لما أُغلِقَت نقابتُها لأخطاءِ من أداروها لأجندتِهم ولم تحاولُ الحكومةُ انقاذَ المهنةِ وكأن الخلاصَ من مجلسِ نقابةِ المهندسين هو هدفُها الأوحدُ. هل يجرؤ أي مسئولٍ في وزارةِ التعليم العالي والجودة علي طرحِ حكايةِ دمجِ المرحلةِ الثانوية في الدراساتِ الطبيةِ؟ نقابةُ الأطباءِ حافَظت علي مهنتِها بغيرةٍ وغالَت في ذلك، والمحاكمُ شاهدةٌ علي مدي ما يمكنُ أن تذهبُ إليه.
الإصلاحُ لا يكون باغتصابِ سنةٍ من الدراساتِ الهندسيةِ بأي مُسمي، ليس بالتقليدِ الأعمي، لكنه بأمانةٍِ المسئوليةِ والبحثِ والتحليلِ. هل من جعلوا مهنةَ الهندسةِ بشموخِها تتسولُ مكاناً قادرون الآن علي إصلاحِها؟ الحمد لله إنني أكتبُ مدفوعاً بحسرتي علي ما يحيقُ بمهنةِ الهندسةِ من تدميرٍ، لا باحثاً عن مكانٍ في دائرةٍ ما أو نفعٍ خاصٍ أو كرسي،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق