السكةُ الحديدُ أهمُ مرفق نقل، جارَ عليه الزمن وما عاد له صاحبٌ، تقارَبت درجاتهُ في التردي والتراجع، فالدرجة الأولى أو الثانية الممتازة لم تعدْ سوى مسمياتٍ. من النادرِ أن يقومَ قطارٌ في ميعادِه المعلنِ، وإن قامَ مصادفةً في الميعاد فسيصلُ إلى غايتِه متأخرًا، وكله بالتساهيل والقدرة، ربع ساعة، نص ساعة، ساعة، ساعتين، أكثر أقل، كل راكب ونصيبه، الدنيا أرزاق شعارُ السكة الحديد، تعايشَ معه الركابُ وقَنِعوا، قطارك الأعرج يغنيك عن سؤال اللئيم.
ليس محلَ تَعجبٍ أو استغرابٍ أو اندهاشٍ أن يصعدَ باعةُ المشبك والفول السوداني وحلويات السيد البدوي من طنطا أو قبلها أو بعدها، المهم أن يمروا بطشتِهم الأخضر المليان على كل عربات القطار، مع النداء، حلويات السيد البدوي، ياللا يا زباين قبل ماننزل، طبعًا النزول يكون في محطة الوصول، أخر محطة؛ على فكرة هذا ما يحدث في القطارات الممتازة، ٩١٨ و ٩١٥ على سبيل المثال، أكل العيش يحب الخِفة، مش كده يا عسل يا مشبك انت. المثيرُ للإعجاب هو كيف يصعدُ الباعة إلى القطار إذا كان مباشرًا، بين القاهرة والإسكندرية، فتاكة أكيد، من الباعة وموظفي السكة الحديد بدءًا من رئيس القطار والسائق الذي يهدئ في المحطات رغمًا عن أنف جدول التشغيل. بعض موظفي القطارِ يستطيعون أيضًا النزول في الطريق، المحطة النهائية فيها إضاعة لوقتِهم وجَهدِهم.
باعُة المشبكِ يقدمون الأمن الغذائي للركاب، جدلًا، لكن ماذا عن المتسولين؟ نفس الأسلوب، الركوبُ والاستمرارُ حتى نهايةِ الرحلةِ، في القطاراتِ الممتازةِ والمباشرةِ، عيني عينك. أحد المتسولين كبار السن كان ينادي "إدوني قبل أحمد ومحمد ما ييجوا"، يا ترى من هما؟ رئيس القطار ومساعده مثلًا؟ متسولون آخرون؟ فزورة. عندما وصلَ المتسولُ إلى المحطةِ الأخيرةِ تكلمَ في المحمول، أكيد يطمئنُ الأهلَ والعشيرةَ على سلامتِه انتظارًا لقطارِ العودةِ، الممتاز أو المباشر طبعًا.
الكلامُ عن الكراسي والنظافةِ في العرباتِ دمُه ثقيل، واِستُهلك، نحن الآن في مرحلةٍ جديدةٍ من تاريخِ سكك حديد مصر، فيها الفوضى والتسيب والإهمال وسوءُ الإدارةِ والعجزُ والمطالبُ والاعتصاماتُ وهات من غير خذ، هايصة فعلًا، والحلُ يبدو أبعد من أسوان، جائز في بلد أخر.
ركوبُ السكة الحديد من تجاربِ الحياةِ وعظاتِها، يوفرُ للركابِ كلَ فرصِ التأملِ، رحلاتٌ ما شاء الله طويلة، يستحيلُ أن تكونَ كلها نوم، المشاهد داخل القطارات أكثر من خارجه، سيرك ماشي، فيلم تسجيلي وماله، فعلًا كل من يركب السكة الحديد يخرج منها فيلسوفًا، وجائز مجنونًا مفقوعًا.
ترى متى يَخِفُ أحمد ومحمد عن سكك حديد مصر، الله أعلم،،
Twitter: @albahary
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق