المقالاتُ، خلاصة فكر، رأي من الضروري أن نفهمه، من الممكن أن نقبله، من الجائز أن نرفضه، طالما بحثنا فيه وفندناه. مع تطور تكنولوجيا المعلومات أصبحت شبكة الإنترنت أكبر موزع للصحفِ، وفتحت بابَ المتابعةِ لشريحةٍ تتعلقُ بالحاسب دون أن تشتري جريدةً أو كتاباً. غّدّت التعليقاتُ الملحقةُ بالمقال ركناً أساسياً فيه، انعكاسٌ لرد فعل القارئ، مقياسٌ لرأيٍ، من الشارعِ، لمدي استثارته، مقالٌ متميزٌ بلا ردود أفعال ينقصه الكثير. متابعةُ التعليقاتِ لا غني عنها، هي دراسةٌ في حد ذاتها لمدي ثقافة المجتمع وسعة أفقه، لتقبله لكل الآراء، المخالفة منها أولاً.
من منطقِ الاهتمام بالتعليقات علي أي مقال أجدني في أحيان ليست بالقليلة مدفوعاً لقراءة المقال بقدرِ ما عليه من تعليقات، منطقٌ غيرُ مكتملِ، لكنه أصبح مقياساً لنجاحِ أعمالِ وأفلامِ بعينها، جافاها النقاد وتقبلها جمهور كاسح، رأوه من فرط سطحيتها مغيباً. لكن هل مقالات الرأي تخضع لاعتبارات السوق، الربح والخسارة؟ لا يجوز، ليست للترفيه إنما لتنشيط العقل، تليينه إن كان مركوناً. لماذا إذن تَعِجُ ببعض المقالات تعليقات غزيرة وتَشِحُ علي مقالات أخرى أكثر قيمة؟ القارئ، مع الأسف، يقرأ المقالَ من عنوانه، وكثيراً ما يحكم عليه قبل أن يقرأه، أو بعد أن يقرأ سطر ويترك اِثنين، خاصة إذا اِشتم أنه متصل بما يتصوره من الدين. هذه النوعية من المقالات توقظ لدي أكثرية من القراء نعرةً في معظمِها جاهلية، يهاجمون الكاتب، يسبونه، لمجرد الظن دون الفهم، دون التعمق. الكاتب يُعملُ العقلَ، وكثيرٌ من المعلقين غير القارئين، يعملون السِباب، التهديد، الوعيد، الدعاء بسوء العاقبة، مما ينضح بحالهم وبما في داخلهم أحياناً، أو مدفوعين في أحيانٍ أخري من محترفي تهييج يريدون الإيحاء بغلبة فكرهم، بجريمة التفكير، بفساد الكاتب ونشوزه، أسلوبٌ غوغائيٌ، يُقلق علي حاضر فَر ومستقبل يجافيه الأملُ.
بنفس منطق السوق، فكما برع البعض في جذب الجمهور للشباك فقد تخصصَ بعض الكتاب في تهييج المعلقين من غير القارئين، في جرهم لفخ الوقوف في طوابير التعليق، كتابٌ لا يجدون ذاتَهم إلا إذا كَثُرَ معلقوهم، ولو بالسباب. الغَثُ يجلبُ الغثَ، من اصطادَ من؟ الكاتبُ أم المعلقُ غير القارئ؟ إنهم جميعاً ضحايا، لبيئةِ سادَها ضيقُ الأفقِ والسطحيةِ.
وهناك من التعليقاتِ ما يلحقُ بالمقالِ مصادفةٍ، فالمقالُ مجردُ سببٍ لإطلاقِها، هي انفعالاتٌ مكتومة تنتظرُ المناسبةَ للاشتعال، تبدأُ بمناوشاتٍ بين المُعلِقين وتنتهي بخناقةٍ إلكترونيةٍ مستعرةٌ، سِبابٌ ومعايراتٌ وتاريخٌ يُفبركُه كلٌ علي هواه، فتنةٌ متكاملةُ الأركان، لكن عبر الفضاءِ الإلكتروني، لا دخلَ لها بالمقالِ الأصلي، هو مجردُ تلكيكةٍ، شرارة.
وإذا كان أسلوبُ كثرةٍ من المعلقين من غير القارئين جاهلياً فإن العديد من الصحف العربية ولو كانت صادرة في غير بلاد العرب تَجنَحُ إلي ما يجافي حرية الرأي وبناء الثقة والتواصل مع القراء، إنها، وللغرابة، تصدر في الخارج بمنطق الداخل، إنه اللامنطق، تمنع مقالات إن هي خالفت توجهاتها، تحذف فقرات إن لم ترقها، وكأن الكاتب أداة تروج لدعاواها، لم تعد منبراً للرأي الحر، إنما مجرد بغبغة لا تتوقف لغثِ الكلامِ.
الصحفُ مدارسُ للرأي والفكر، لن يتعلم مجتمعٌ القراءةَ واستساغةَ الفكرِ في إسارِ صحافةٍ أُحادية النظرة، كدوابِ مُحددة بغَماماتِ عيونُها. هل تتسع الصحف العربية لكل رأي، لكل فكرة، لكل كلمة؟ متي تُعلِمُ المعلقين الشتامين كيف يصبحوا قراءً ؟ وقتها لن يَسُبُ معلقٌ كاتباً كدَ، فقد قرأ ووعي، أعمل عقله، لم يدفعه أحدٌ لبذاءة.
هل نجحت فكرة التعليقات الإلكترونية؟ ما أشقَ إخراج الأفكار للوجود، ما أيسر البذاءة، النفاق، السير في قطيع، إلي الجُبِ،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق