السبت، 26 يناير 2013

الجَودةُ الفسدانةُ ...

رفع شعار جودة التعليم في ظل افتكاسات القائمين على التعليم أيام النظام السابق، للإلهاء عوضًا عن الجودة الحقيقية، ومازال للأسف شعارًا بكل خطاياه. الجودة في التعليم مطلوبة بلا شك، لكن عندما تكون حقيقة لا إيهام، فهى معامل ومكتبات ومدرجات وحضور للطلاب وأعضاء هيئة التدريس، لكن مع كل الأسف ما نراه الآن لا يعدو كونه تبذيرٌ وتبديدٌ لوقتٍ ومالٍ شحيحٍ. وسأضرب مثالاً باستبياناتٍ يُطلب من الطلاب مَلؤها، بكل الإلحاح والإصرار وكأن الجودة لن تكون إلا إذا اشتكى الطالب !!

فهذه النوعية من الاستبيانات تفتقد للأسس العلمية والتربوية للأسباب التالية:
١. عدد الطلاب الذين يشتركون فيها قليلٌ ولا يتضح منها ما إذا كانوا قد حضروا المحاضرات. 
٢. نسبة حضور الطلاب للمحاضرات تتراوح بين ٣٠٪ و ٥٠٪ على أكثر تقدير وهو ما يجعل استيعاب المواد أمرًا مستحيلًا، هذا مع العلم أن كثيرًا منهم غيرُ متفرغين للدراسة. 
٣. تُجري الاستبيانات بعد الامتحان النهائي وهو ما يجعلها تصفية حساب أكثر منها استبياناتٍ علميةٍ حقيقيةٍ، كما أنها تكون بهذه الصورة وسيلة ضغط على عضو هيئة التدريس عند وضعه الامتحان. 
٤. المدرجات تفتقد للكثير، مما يجعلها غير صالحة لتوفير مناخٍ يساعد الأستاذ على التدريس والطلاب على الحضور، فالميكروفونات سيئة الآداء إن كانت تعمل، وأجهزة العرض لا تعمل جيدًا، إضافة إلي عدم التهوية والنظافة وسوء الإضاءة. 
٥. بالاستبيانات أسئلة غير منضبطة مثل "حسن معاملة الطلاب"، التي يجب تعريفها بدلًا من تركها  للتأويل، ومن غير المقبول أن يحصل الطلاب على أرقام الهاتف الخاصة لأعضاء هيئة التدريس دون الرجوع إليهم، وإلا فعلى إدارات الكليات توفير هاتف عمل لكل عضو هيئة تدريس.  كما أنه لا يُفترض أن يستذكرَ عضو هيئة للتدريس في كتب النكت حتى يكون حُلوًا مُسخسخًا، وأن يتركَ لزامًا بابَ المحاضرةَ مفتوحاً ولو بعد بدئها بأكثر من ربع الساعة. 
٦. فهم الطلاب للمواد مرتبط بالحضور المنتظم مع اقتناء مراجعها العالمية، وهو ما لا يحدث إلا قليلًا. 
٧. شكوى الطلاب من الامتحانات غير موضوعية، فعدم حضورهم وعدم واقتنائهم المراجع والاكتفاء بالمذكرات مجهولة المصدر التي يتداولونها والمجموعات الدراسية التي تنظمها إدارات الكليات، يجعل تحصيلهم هزليًا ومعلوماتهم سطحية، وهي مشكلة مجتمعية اعتادوها منذ الثانوية العامة، وأغفلتها الاستبيانات النمطية التي تفتقر الابتكار والموضوعية. 
٨. احترام عضو هيئة التدريس من احترام المؤسسة التعليمية والدولة ككل، والتفريط لا يؤدي إلا إلى زيادة تفاقم الأمور، وهو ما يجب أن تجتهد فيه إدارات الكليات المتقدمة للاعتماد ومن يتولون الجودة بطريقة آلية نمطية. 
٩. من الضروري أن تجتهد إدارات الكليات في وضع آليات لحث الطلاب على حضور المحاضرات بدلًا من تشجيعهم على التسجيل في المجموعات الدراسية التي ترعاها وتشجع عليها وكأنها البديل  للحضور المنتظم طوال الفصل الدراسي. 
١٠. من المؤكد أن استنساخ الاستبيانات التي تجرى في الجامعات الخاصة عليه الكثير من المآخذ، خاصة وأن الآداء في تلك الجامعات لم يصل إلى المستوى المطلوب، إضافة إلى الاختلاف التام بين تلك الجامعات وجامعات الحكومة. 

١١. لم تدخل آراء أعضاء هيئة التدريس في أي اعتبار اكتفاءًا بما يراه الطلاب، وهو خللٌ فادحٌ ما كان يجب أن تغفل عنه وتندرج إليه إدارات الكليات والعاملون بالجودة. 
١٢. العملية التعليمية تربوية في المقام الأول، فيها كدٌ وتعبٌ وهو ما يجب أن تكرسه إدارات الكليات في الطلاب قبل أن تحثَهم على تقديم الشكاوى كبديلٍ عن معاناة تحصيل العلم. الأجدى لأي وطنٍ من يعملون قبل أن يشكون لا من يتخاذلون بالشكوى حتى يأتيهم النجاح والتقديرالوهمي بالحد الأدنى من الجهد. 
١٣. لأعضاء هيئة التدريس بالكلية قيمةٌ وقدرٌ، ومن الواجب مراعاتهما إذا كان لإدارات الكليات رغبةٌ في التباهي بهم والتعاون معهم كأهم أسباب الاعتماد المأمول عن استحقاق ومنهج علمي وتربوي. 

في زمن الجفاف تنقلب الأمور، ويظهر من يتصورون أن الفسدان التلفان يحقق التقدم، وماله طالما أن الجودة ستكون سُلمًا ومكافآتٍ، كما كانت،،

Twitter: @albahary

عالم فيسبوك … الوهم


فيسبوك هو أكبر تجمع على الكرة الأرضية لا تحتويه مساحةٌ مكانيةٌ محددةٌ، فهو يمتدُ ليشمل كل القارات واللغات والمعتقدات والأجناس والأعمار، دون لقاءٍ حقيقى أو تيقنٍ من حقيقةِ المتصلِ، فهناك أكثر من 500 مليون مستخدم نشط لفيسبوك من إجمالي 835 مليون مشترك.

ولفيسبوك مزايا عديدة وهامة يستفيدُ منها مشتركوه، مثل البحثُ عن الرفاقِ القدامى وإعادةُ التواصلِ معهم، الاتصالُ بالأصدقاءِ فى أى وقتٍ مهما كان التباعدُ الجسدي، إبقاءُ الأسرةِ والمعارفِ على علمٍ دائمٍ بما يحدثُ ويجدُ، الدعايةُ الشخصيةُ والتجاريةُِ والسياسيةُ والاجتماعيةُ والفكريةُ والعقائديةُ، تكوينُ صداقاتٍ جديدةٍ ومتنوعةٍ من خلال الانضمامِ إلى مختلف المجموعات والتجمعاتِ، التشاركُ مع الآخرين في الموسيقى المفضلة ومقاطع الفيديو والصورِ.

إلا أن هناك من سلبياتِه الشئ الكثير مثل إتاحةُ البياناتِ والصورِ الخاصةِ على الملأ وتَعَرُضُها لإساءةِ الاستخدامِ، إقامةُ علاقاتٍ عن طريق الخطأ مع أشخاصٍ سيئى النوايا، تلقي النشراتٍ الإخباريةٍ غير المرغوبةِ عن أنشطةِ الأصدقاءِ على فيسبوك، نشرُ مستنداتٍ وظيفيةٍ تحظرُ قوانينُ العملِ نشرِها والتفريطِ فيها، إتاحةُ المعلوماتِ الشخصيةِ التي تطلبُها بعض التطبيقاتِ من مشتركيها. أيضًا، إدمانُ فيسبوك وقضاءُ ساعاتٍ طويلةٍ بداخلِه باعتبارِه المتنفسِ الوحيدِ للتعبيرِ عن الذاتِ خاصةً للأشخاصِ الإنطوائيين، وهو ما يزدادُ فى البلدانِ العربيةِ التي يصعبُ فيها التواصلُ الحقيقى والحر مع الآخرين. ومن الضارِ، عَدمُ شفافيةِ التعاملُ مع فيسبوك، ذلك أنه يستحيلُ التيقنِ من هُويةِ الأصدقاءِ ومكانِهم، مما يجعلُ الانجرافَ في تجمعاتٍ وتحركاتٍ أمراً فيه من المغامرةِ الشئ الكثيرِ، فقد تكون النداءاتُ والدعواتُ من جهاتٍ معاديةٍ وأجهزةِ استخباراتٍ.

لكن لماذا الكلامُ الآن عن فسبوك؟ إحصائياً وُجِدَ أن 47٪ من مستخدمي فيسبوك يقلُ عمرُهم عن خمسة وعشرين عاماً، وأن نسبةَ مستخدميه حتي ما دون الخمسةِ والثلاثين عاماً تبلغ 74٪. وهي أرقام شديدة الدلالة علي أن مستخدمي فيسبوك في معظمِهم من الشبابِ صغير السن الذي تغلبُه الإنطوائيةُ والذي يعجزُ عن التفاعلِ الحقيقي مع المجتمعِ المحيطِ. أما عندنا فالحالُ شديدُ الغرابةِ، فمستخدمو فيسبوك فيهم من تخطوا هذا السن بكثير وأصبحَ إدمانُه متنفسَهم الوحيدَ، وما خَرَجَ من هذا الفخِ أعضاءُ هيئاتِ تدريسٍ بالجامعاتِ ممن اعتبرَوه وسيطَ نقلِِ ما يتصورونه خلاصةَ أفكارِهم وإبداعاتٍهم وفلسفاتٍهم وتفرداتٍهم ومواقفٍهم التي يرونها ثوريةً. فيسبوك وسيلتُهم المجانيةُ للنشرِ وأيضاً لتأليبِ الطلابِ المتابعين لهم لو بحسنِ نيةٍ. من أعضاءُ هيئاتِ التدريسِ بالجامعاتِ من نحى البحثِ العلمي جانباً، وتفرَغَ لقعدةِ فيسبوك بالساعاتِ. 

لقد أحدَثَ فيسبوك تغييراتٍ جوهريةٍ في الدولِ العربيةِ ذات الأنظمةِ القمعيةِ بعد أن ضاقت سبلُ التعبيرِ الحقيقي أمام ملايين المثقفين والشباب، لكن هل كانت هذه التغييراتُ وليدةُ مجموعاتٍ وتجمعاتٍ مُتجانسةٍ مُتحدةٍ حقاً في الأفكار والمرامي؟ لم يغيرْ فيسبوك الحياةَ في الولاياتِ المتحدةِ حيث نشأَ ولا في أوروبا واليابان، لكنه استأسَدَ في مصر، هل هى مصادفةً؟ لا بدَ أن نتساءلَ ونتفَهَمَ ونحترسَ، فالمستخبي أكثرَ مما بانَ، وما هو آتٍ أخطرُ مما حَدَثَ. 

فيسبوك، في نسختِه المصرية، غِناءٌ في الحمام وحواراتٌ من وراء حُجُبٍ. مرتادوه يجدون في أنفسِهم فلسفةً وفكرًا وشجاعةً وفنًا ورقةً ومشاعرًا مُرهفةً، يديرون حواراتٍ ويفتحون مواضيعًًا يعجزون عنها إذا تواصلوا في الحقيقةِ والواقعِ. فيلمٌ يحاكي الواقعَ وما هو بواقعٍ، كلامٌ ودوشةٌ وسخونةٌ عن بُعدٍ، تُقابلُها برودةً إذا تلاقى فرقاء فيسبوك. وضعٌ عجيبٌ، نَجحَ فيسبوك في تحقيقِ تواصلٍ إخباري لكنه اجتماعيًا موهومٌ، غابَ عن مُرتاديه أن قدرةَ الإنسانِ على التلاقي تولدُ معه وتنمو بالممارسةِ الحقيقيةٍ، بالتفاعلِ مع بشرٍ، عن قُربٍ، يستحيلُ أن يقربَ فيسبوك من يفتقدون القدرةَ على الودِ وحسنِ المعاشرةِ.

المواقعُ الاجتماعيةُ، ومنها فيسبوك، فيها الخداعُ والكَذبُ، ضحاياها بغيرِ حَصرٍ، كثيرون يَظهرون فيها بغير حقيقتٍهم، عن بُعدٍ ومن وراء سُتُرٍ يكتبون بِرِقةٍ، بظرفٍ، بفبركة، بفزلكة، يُعطون من طَرفِ اللسانِ حلاوةً ويروغون عند الجَدِ كما يروغُ الثعلبُ. المنافقُ والكاذبُ والمرتَزقُ والوصولي، من ضمن كائنات المواقعِ الاجتماعيةِ، هي غايتُهم وملعبُهم، وسيلةُ دعايتِهم الشخصيةِ، مجانيةٌ وسَهلةٌ، كلمتين وحكايتين واستظرافتين. 

لا أجلس على مقهى فيسبوك، لكن أتابع مرتاديه، خاصةً من أعرفَهم، لما أقرأ تنهداتِهم وتأوهاتِهم وتأملاتِهم أتيقنُ من وهمِه. لست ضد فيسبوك، يستحيلُ، لكن الحَذرَ واجبٌ، جدًا جدًا، لا لفيسبوك السباب والشائعات والنميمة والارتزاق، لا لمقهى فيسبوك، وأهلًا بفيسبوك المعلوماتِ المفيدةِ والتعاملاتِ السَويةِ، لا مواعيدَ، لا بيعَ ولا شراءَ، لا زواجَ ولا طلاقَ، خفيف خفيف. 

كلام فيسبوك مدهون بذبدة، غالبًا،،

Twitter: @albahary