السبت، 7 يونيو 2008

هل تصبحُ مصرُ خليجيةً؟



أزياءٌ جدَت، لونُها أسودٌ قاتمٌ، رمادي كالحٌ، بني داكنٌ، ولو في عز الحر؛ سراويلٌ قصيرةٌ واسعةٌ تعلوها قمصانٌ تطولُ الركبةِ، طواقي أشكالُها جافةٌ، لحي كثةٌ، شباشبٌ وصنادلٌ ولو في عز البرد. نظراتٌ متربصةٌ متحفزةٌ، شفاهٌ ممطوطةٌ مضمومةٌ، أصواتٌ زاعقةٌ صارخةٌ، عروقٌ نافرةٌ متصلبةٌ. مصرُ ليست مصرَ.
مصرُ اليومَ، يغيبُ عنها التنوعُ والتعددُ، الألوانُ والألحانُ، التسامحُ والتآخي والتآلفُ. ماذا حدث؟ لماذا؟ الاجتهادُ واجبٌ، حتي لا يكون ما يُخشي مفاجئاَ، حتي يكون المجهولُ معلوماً واضحاً بيناً.
قلةُ العيشِ دفعت الكثيرين إلي دولٍ خليجيةٍ لها طباعُها وعاداتُها، صحاري ولو ارتفعت فيها ناطحاتُ السحابِ وعُبِدت الطرقُ، بداوةٌ تتسابقُ فيها السياراتُ الفارهةُ مع قطعانِ الجمالِ، الفاظٌ جافةٌ وتعاملاتٌ خشنةٌ تماماً كقيظِ أجوائها وخشونتِها. إعلامٌ اشتري الفضائياتِ وصحافةَ الورقِ والإنترنتِ، يقدسُ حاكمَه، لا تعددَ آراءٍ فيه إلا عما وراءَ حدودِه، رفضٌ واحتقارٌ للغيرِ، انكارٌ لفضلِ حضارةٍ غربيةٍ رفعتهم، بها يعيشون، وأيضاً يلعنون ويُخَطِئون. ماذا يستطيعُ غريبٌ جائعٌ ضعيفٌ في مجتمعٍ كهذا اشتراه، بعقودِ عملٍ هي الرقِ والعبوديةِ؟ماذا يمكنُه إلا الانصياعَ والانقيادَ في المظهرِ، الكلامِ، العاداتِ؟ ينجرفُ فيما توهمَ أنه الصوابُ، يتناسي أنهم بالمالِ اشتروه، ينقلبُ علي بلدِه الذي لم يقدم له الرخاءَ، لم يقدرُه؛ لما لا يجربُ نهجاً أخراً، نهجُ من بأموالِهم سبوه؟ لماذا لا ينتقمُ من بلدِه الذي إلي المذلةِ رماه؟
وضعٌ طبيعي، عجزُ الدولةِ عن زرعِ الأملِ في مواطنيها يدفعُهم للانقلابِ، استمرارُ سلطةٍ مع قلةِ حيلتِها يدفعُ للهروبِ الجماعي، لخارجِ الحدودِ، للبحارِ، أياً كانت العواقبُ، من ينجو يتحولُ لكارِهٍ حاقدٍ علي من أجبروه علي بيعِ نفسِه لكفيلٍ لا يرحمُ ولسمسارِ إغراقٍ في أعماقِ بحارٍ أو أغوارِ حياةٍ شظفُها عجزَ بلدُه عن تحقيقِه.
مصرُ ليست مصرَ، مهزومةٌ، من الداخلِ، بالفقرِ، بالجوعِ، بالعطشِ، بالظلمِ، بالقهرِ، بانعدامِ الخياراتِ والفرصِ والبدائلِ، المهزومُ تابعٌ، في المظهرِ، في العاداتِ، في الفكرِ، لا شخصيةَ له. كان الاستعمارُ يعيدُ صياغةََ الشعوبِ المحتلةِ، الآن الفعلُ للغضبِ، لرفضِ الحالِ مع العجزِ عن تغييرِه. مصرُ ترتمي في أحضانِ الماضي، الوهمِ، لعلها تجدُ الخلاصَ؛ خداعٌ للذاتِ ضاعَت فيه الحقيقةُ، عظاتُ التاريخِ. لكلِ مجتمعٍ عاداتُه، لكلِ عصرٍ أدواتُه، يستحيلُ نقلُ حياةِ القيظِِ والجفافِ إلي مجتمعٍ له جذورُه، الثمنُ لا بدَ وأن يكونَ انفصاماً في الشخصيةِ مآلُه الانهيارُ، التفتتُ.
مصرُ ليست مصرَ، إنها تتخبطُ، يستحيلُ أن تكونَ خليجيةً، إلا إذا أرادت الانتحارَ، وقتها سيجفُ الخليجُ، أيضاً،،

الجمعة، 6 يونيو 2008

تصعيد المرأة .. بين الشعارات والاعتبارات




يشهدُ العالمُ مداً وجزراً، في سياساتِه وتوجهاته، مابين الرأسماليةِ والاشتراكيةِ، ما بين إعطاءِ حقوقٍ مطلقةٍ للفردِ وما بين تقييدها. وقد ترسخَت في الدولِ الأوروبيةِ والأمريكيةِ والعديدِ من الدولِ الكبري بأسيا مفاهيمُ المساواةِ بين الرجلِ والمرأةِ، وبين أهلِ الدياناتِ والمعتقداتِ المتعددةِ. للمرأةِ نصيبٌ من الاهتمامِ والرعايةِ، باعتبارِها الأضعف عضلياً في عالمٍ يقومُ علي القوةِ التي تصلُ كثيراً إلي حد الهمجيةِ. وقد كانت الحكومةُ الحريمي في أسبانيا أحدُ أبرزِ الأمثلةِ علي الاعتقادِ بوجوبِ تمكينِ المرأةِ إلي أقصي درجةٍ، وهو ما لم تستسيغه حتي أوروبا المنفتحة.
أما في البلادِ العربيةِ فقضيةُ المرأةِ تتراوحُ ما بين رفضٍ مطلقٍ لمشاركتِها في الحياةِ السياسيةِ والوظيفيةِ وحتي في الشارعِ، كما يتضحُ في السعودية ودول الخليج، إلي الدفعِ بها ولو من بابِ المنظرةِ وتصنُعِ التقدمِ الاجتماعي في دولٍ غيرِها. لستُ ضدَ المرأةِ ولا ضدَ توليها أي منصبٍ، بل علي العكسِ، أنا مؤيدٌ لمبدأ قدرتِها علي إعالةِ نفسِها بعلمِها وعملِها تحسُباً لتقلباتِ زمنٍ لا أمانَ فيه، إلا أنه من الضروري ألا نَغفَلَ أن لمجتمعِنا الجامدِ قوالبٌ صًُبت فيها عقولُ الرجالِ والنساءِ علي حدٍ سواءٍ. في مجتمعنا يتصورُ الرجلُ أنه سبعُ السباعِ إذا أخضعَ المرأةَ في زيِها وقيدَ حركتَها ولو نالَ ما نالَ من صنوفِ الضنكِ في المعيشةِ والمعاملةِ، هو أسدٌ عليها وفرفورٌ فيما عدا ذلك. أما المرأةُ، من طولِ سنواتِ تجاهلِها وتعويقِها، استحوذَ عليها بحقٍ أن الرجلَ هو سجانُها، وأنه وراءَ تحجيمِ طموحاتِها، وهو ما ينعكسُ علي تعاملاتِها معه في عالمِ العملِ، وآآه وآه لو تولَت منصباً قيادياً. إنه فرصتُها للأخذِ بثأرِها، للتسلطِ، للشخطِ والنطرِ ولو بدون سببٍ، للتفننِ في محاولاتِ كسرِ إرادةِ الرجالِ؛ الأمرُ خرجَ من إطارِ الالتزاماتِ الوظيفيةِ السويةِ إلي الأخذِ بالثأرِ وتخليصِ الحقِ. صحيحٌ أن نشأةَ المراةِ هي الفيصلُ الأولُ في كيفيةِ تعاملِها مع عالمِ المسئوليةِ الوظيفيةِ، لكن أحياناً كثيرةً تتغلبُ عندها التأثيراتُ الاجتماعيةُ وتسيطرُ علي مخيلتِها هواجسُ أنها في معركةٍ مع عالمٍ رجالي ظالمٌ لا بدَ أن تؤدبَه وتثبتَ أنها له ندٌ، بردودِ أفعالٍ حادةٍ مفتعلةٍ قبل العملِ الحقيقي.
الأمرُ إذن ليس في تعيين المرأةِ لكن في قدرتِها نفسياً علي تقبلِ فكرةِ تولي كرسي مسئولية دون أن تكونَ في حربٍ مع عالمِ الرجالِ، وهو ما يتساوي تماماً مع استعدادِ الرجلِ للاعترافِ بها دون أن تتغلبَ لديه القناعةُ بأنها أُجلسَت لشعاراتٍ مظهريةٍ لا لكفاءتِها.
كثيرٌ من الرجالِ فشلوا علي كراسٍ شغلوها، وكذلك النساءُ، لكن مجتمعنا يتذكرُ اخفاقَها، لا يتقبلُ أن تسيرَ امرأةٌ والرجالُ وراءها، أو أن تشخطَ وتنطرَ فيهم بمزاج. أسبانيا حرة، ونحن كذلك،،

الأربعاء، 4 يونيو 2008

شركات تخريب الجامعات




يحظر قانون العاملين المدنيين بالدولة الجمع بين وظيفتين، ويحدد قانون الجامعات الانتدابات بما لا يزيد عن ثمان ساعات موزعة علي يومين أسبوعياً. لكن مع تدني أوضاع هيئات التدريس المادية وترهل أوضاع الجامعات أحيلت القوانين إلي المخازن بالعلم التام لإدارات الكليات والجامعات. نتيجة لهذا الوضع المثير لكل الآسي والأسف تجرأت بعض الشركات التي ترفع شعار نقل التكنولوجيا ودعم البحث العلمي وتوظيف الخريجين علي تعيين أعضاء هيئات تدريس بها دون إتباع الإجراءات القانونية والأخلاقية الواجبة، فهي تقيدهم عندها استشاريين أو عاملين نصف الوقت بينما واقعاً هم متواجدون بها كل الوقت وعلي سفر في مأمورياتها داخل وخارج مصر. المحصلة الختامية الطبيعية، تواجد أعضاء هيئات التدريس هؤلاء بكلياتهم في أضيق الحدود، انقلبت التزاماتهم تجاه كلياتهم إلي منحة ومنة وترفعاً عن العمل وتفضلاً به، وفي أحيان ملموسة تتشكل منهم تكتلات للدفاع عن مصالح تلك الشركات بالكليات.
ليس بمستغرب إذن أن تتجبر تلك الشركات وأن تلوح بتعيين كبار مسئولي الكليات من مستشاريها أو أن توظف أبنائهم، أو أن يكلف مديروها سكرتارية مكاتبهم للاتصال برؤساء بعض الأقسام للاجتماع بهم في مكاتبهم بمقر الشركات!! طبعاً شعارات نقل التكنولوجيا وتوظيف الخريجين جاهزة في وجه من يحاول التصدي لهذا الانفلات الإداري والأخلاقي. لم تنقل تكنولوجيا ولن تنقل، وما يُدعي عن دعم البحث العلمي لا يعدو كونه ترويجاً لمنتجات نمطية تسوقها تلك الشركات وتملأ بها صفحات الجرائد.
الأمر لم يتوقف عند حد تجاوز بعض تلك الشركات ولكنه امتد إلي العديد من الجامعات والمعاهد الخاصة التي ينتدب لها أعضاء هيئات تدريس من الجامعات الحكومية، فهي تنتدبهم بما يتجاوز الثمان ساعات أسبوعياً التي نص عليها قانون الجامعات التعيس بتعاستها، و لا تشترط موافقة كلياتهم، ومرة أخري ينقلب الأصل، يصير العمل كل الوقت في الكليات الخاصة ويكون في الكليات الحكومية تفضلاً ومنة ومنحة.
هانت الجامعات الحكومية بعد أن تردت أوضاع هيئات التدريس المادية وانعدمت الميزانيات التي يمكن أن تخصص لها. وتجلت تماماً إصابة العديد من أعضاء هيئات التدريس بانفصام الشخصية الوظيفية، فهم في منتهي الالتزام في أي مكان عمل خارج كلياتهم في مقابل تمرد وعدم التزام في كلياتهم سبب ظهورهم وعملهم في أي مكان آخر!!
وأسفاه وكل سلامي للجودة إياها والتربية والتعليم والبحث العلمي الذين أفردت لهم المؤتمرات والندوات والميزانيات،،،

الثلاثاء، 3 يونيو 2008

رهانُ الإخوانِ



الرهانُ هو وضعُ أوراقِ اللعبةِ في اتجاهٍ ما وانتظارُ النتيجةِ، إما تُصيب أو تخيب، مقامرةٌ، لغةُ السياسةِ، لكنها أيضاً لغةُ كلِ من يلقي حمولَه علي كتفٍ ما، انتظاراً للحظةِ غنمٍ قد لا تجئُ أصلاً. في مجالِ العملِ، لغةُ الوصوليين والانتهازيين دوماً هي الارتكانُ علي شخصٍ بعينِه، نفاقُه والسيرُ وراءه، قد يكونُ رئيسَ وزراءٍ، وزيراً، مديراً، المهم أن يمتلكَ مفاتيحَ الترقي. لطالما نجحََت هذه الخطةُ، ولطالما أوصلَت إلي كرسي السلطةِ من لا يجوزُ أن يقربوها، إلا في عصورِ التردي.
هكذا يلعبُ الإخوانُ، يرتكنون علي قويٍ جبارٍ، لا يقفُ أبداً، الزمنُ. الزمنُ هو ما يراهنون عليه، يتصورون أنه في صفِهم، ما عليهم غيرُ إعدادِ عُدتِهم وانتظارِ وصولِه، الآن، غداً، بعد غدٍ، إنه قادمٌ لا محالةَ. إنهم يرون أن هِرمَ النظامِ يصبُ في صالحِهم، أنه لن يستمرُ، الضنكُ الاقتصادي بما يسببه من غضبٍ شعبي يمهدُ لهم، الساحةُ العالميةُ المُتخمةُ بالغضبِ من السياسةِ الأمريكيةِ تقويهم ضد سياساتِ النظامِ القائمةِ علي التحالفِ المصري الأمريكي، الفسادُ المستشري من أعلي السلطةِ لأقلِ موظفٍ عامٍ يروجُ لشعاراتِ الطهارةِ التي يرددونها ليلَ نهارَ، استعدادٌ شعبي لتقبلِ الخزعبلاتِ والخرافاتِ وحكاويٍ بلا سندِ يتفقُ مع نهجِهم. الجو العامُ إذن يعبدُ طريقَهم، علي الأقلِ في تخيلِهم.
استعداداتُهم لا تهدأُ، ينخرون في قواعدِ المجتمعِ، بخطباءِ مساجدٍ متشنجين صارخين زاعقين، بأنشطةٍ تبدو في ظاهرِها خيريةً وفي واقعِها هي شراءٌ للمواطنِ البسيطِ المطحونِ، محطاتُ ترامِ الاسكندرية تشهدُ كيف استولوا عليها بباعةٍ غلابة يروجون شرائطَ كاسيت وكتباً بخطبِهم وأفكارِهم، الجامعاتُ يُفتتون فيها بطلابٍ مطحونين وأعضاءِ هيئةِ تدريسٍ ناقمين. صحفُهم وإعلامُهم ومندوبوهم في مجلسِ الشعبِ في صراعٍ لا ينتهي مع ثوابت المجتمعِ، يرفضون أية قوانينٍ من شانِها إزاحةِ ما وقرَ من صدأٍ في الوجدانِ العامِ، حججُهم أضعفُ من أن تؤيدَ اصرارَهم علي الرجوعِ إلي الخلفِ، لا بدَ من الصوتِ العالي، فيه يَبرعون، به يُخيفون.
إنهم يُفتتون في أساساتِ المجتمعِ، بأناةٍ وتخطيطٍ، لا يهدأون، لا يكلون، انتظاراً للحظةٍ يسقطُ فيها النظامُ، ولو من تلقاءِ نفسِه، بفعلِ الزمنِ، وقتها سينقضون، من أسفلِ لأعلي، في مجتمعٍ تمَ تمهيدُه لاستقبالِهم. يتناسون أن عالمَ اليومِ لن يقبلُ دعاواهم، أنه في وجودِهم علي السلطةِ نهايةٌ لدولةٍ قامَت منذ آلافِ السنين، ستتمزقُ، ستُحتلُ، ستغرقُ، لا يهمُهم، المهمُ رفعُ شعاراتِهم، ارتداءُ أزيائهم، حملُ سيوفِهم، الموتُ جوعاً من أجلِ أن تعلو أعلامُهم المحترقةُ.
الغايةُ تبررُ الوسيلةَ، ولو كانت رهاناً ومقامرةً،،

الاثنين، 2 يونيو 2008

عندما يجوع الإنسان



عندما يجوع الإنسان يستيقظ بداخله الحيوان المفترس، لاهثاً باحثاً عن فريسة، تارة بالخديعة وتارة بالغدر. في الغابة البقاء للأقوي، لا أخلاق ولا ضمير، إنما قتل من أجل البقاء. ما أتعس مجتمع الإنسان عندما يتحول إلي غابة، الهمجية قانونها والأشرس حكامها.
أين مجتمعنا من الغابة؟ صفحات الحوادث تفيض بجرائم يُقتل فيها الضعفاء عجزاً وطفولة وشيخوخة. لماذا تحولت حياتنا إلي توجس وتربص؟ لماذا قُتلت الأخلاق وساد العنف؟ الأسباب عديدة، من داخلنا، ليست مؤامرات خارجية ولا أزمات عالمية. لنراجع الأسباب بصراحة، بلا بحث عن شماعات الفشل وأعذار العاجزين:
1. انعدام فرص العمل مع ازدياد في عدد القادرين عليه الراغبين فيه، انسدت الطرق الشريفة ولم يبق لسد الرمق إلا الدناءة والخسة والتحايل بأية صورة.
2. غول الأمية لم يجعل لشريحة هائلة من المجتمع فرصة للتعايش معه وفهمه، إنها تعيش عالماً بدائياً همجياً لا يعترف بقانون ولا أخلاق، إنها تشد المجتمع للخلف ولأسفل، إنها في أحيان كثيرة تحكمه.
3. جشع يزدان به الأغنياء ومحتكرو السلطة والنفوذ، ثرواتهم تزداد وتتضخم، بالحرام، بالسطو علي الفقراء وقليلي الحيلة، الأضواء مسلطة عليهم، يبدون كملوك الزمن وملاكه.
4. مرتبات متدنية ودخول ضامرة لا تتناسب مع حياة باهظة لا تعترف بفقر أو عجز، الأغلبية الساحقة تحيا علي الهامش، تُخدرها كرة القدم أحياناً، تعيش واقعاً لا يتفق مع ما تُظهره بيانات الحكومات، نَست المستقبل من فرط ما استغرقتها الهموم.
5. مجتمع تسوده الطبقية بعد عشرات السنوات من إعلان إلغائها، من عَلَت طبقاتُهم بفعل السلطة والمال داسوا القيم والفضائل علي مرأى وسمع سلطات الدولة.

لما كل هذا التردي؟ لماذا تفاقمت الأسباب وتضخمت، الخطأ بَيِن والصواب أكثر بياناً:
1. اقتصاد مختنق، دولة لا تقوي علي المنافسة علمياً وبالتالي صناعياً وزراعياً وتجارياً، لا بد وأن تتقاذف عملتها الرياح، داخلية وخارجية.
2. أوضاع سياسية تعارضت فيها مصالح أهل الحكم ومعارضيهم مع مصالح الشعب الكادح، غاب الاهتمام الحقيقي بالتواصل مع الجماهير وجس نبضها، بمحو أميتها في كل النواحي؛ المشاكل لا تتولد مصادفة إنما بتراكم طويل من الأخطاء والإهمال والتناسي.
3. مجتمع متكاسل متخاذل، لا يؤمن بالعلم إنما بالخزعبلات والخرافات، تُغرقه الشكليات والسفاسف عن ملاحقة عصر جديد في كل جزئياته ومفرداته؛ ضيق الأفق لا يتسع للرأي الآخر، يصور المخادعة علي أنها مهارة والفهلوة علي أنها عِلم.

جوع الإنسان يلغي العقل والأخلاق والقيم والدين، الحيوان لا يُسأل عندما يتصرف وفقاً لطبيعته، لكن إذا تصرف الإنسان وفقاً لطبيعة أخري، طبيعة الحيوان، فالكارثة مؤكدة،،

من الفتاوي إلي الأحلام



فتاويٍ بلا انقطاعٍ، في الصحفِ والفضائياتِ والجلساتِ، أياً كانت، في كلِ الموضوعاتِ، من أي لسانٍ، تُحرِمُ وتمنعُ أكثرَ مما تُحلِلُ وتُبيحُ. مضي زمنٌ كانت فيه الفتاوي من متخصصين، اختلفوا وتعارضوا علي الرغم من تعمُقِهم، اليومَ تُضخُ الفتاوي بلا علمٍ ولا تبحرٍ، بالرغبةِ في الظهورِ وكسبِ المالِ، في زمنٍ عمَت فيه البطالةُ والهزيمةُ والاندحارُ، ثقافياً وسياسياً واجتماعياً. ما أسهلَ أن تكون في جِلسةٍ فيهبُ نكرةٌ منتفضاً لكلمةٍ عفويةٍ، "حرامٌ"، لقد سمعتها في الفضائياتِ وقرأتَها علي الإنترنت، هكذا بمنتهي البساطةِ!! الكلُ يتقمصُ شخصيةَ المفتي، لإثباتِ الذاتِ، أيسرُ وسيلةٍ، تُغني عن مجهودِ اكتسابِ الثقافةِ والإطلاعِ.
سيولُ الفتاوي ظاهرةٌ مرضيةٌ في مجتمعاتٍ فيها التواكلُ هو القاعدةُ، صناعُ الفتاوي يُعملونها في أمةٍ كَسُلَت عن التفكيرِ، أنابَتهم عنها في استخدامِ عقولِهم، استخدموها بالفعلِ، لكن فيما يُعطلُ ويُدمرُ ويُتلفُ. فتاوي تناولَت الجلوسَ والوقوفَ والقيامَ والقعودَ والنومَ والأكلَ والمشيَ والحديثَ والسكوتَ والضحكَ والبكاءَ ودخولَ دوراتِ المياهِ والخروجَ منها، لم تترك شيئاً، جعلت الحياةَ سيراً علي حبالٍ ممدودةٍ أعلي براكينٍ من نارٍ. ما كان مُتعارفاً عليه لعشراتِ السنينِ أصبحَ حراماً، فجأةً، وكأن السابقين غَفِلوا وما فَهِموا.
المفتون علي كلِ لونٍ، شيوخاً وشباباً، رجالاً ونساءً، تتفاوتُ أساليبُهم ما بين التشنجِ والصراخِ إلي الهدوءِ والابتسامِ، منهم من يستخدمُ لغةَ الأيادي المُشوِحةِ الضاربةِ بعنفٍ، ومنهم من يُفضلُ لغةَ الحواجبِ اللعوبِ والشفاهِ المَمطوطةِ. أما الأزياءُ فتتراوحُ بين التقليدي والحديثِ، دونَ المساسِ بجودةِ القماشِ والساعةِ والنظارةِ والمِسبحةِ.
لما كَبُرَ سوقُ الفتاوي وتشبعَِ، مهنةُ من لا مهنةَ له، بدأت البطالةُ تضرِبُ بعض المفتين، أخذت شمسُهم في الأفولِ، التمسحُ في الدينِ يتسعُ، وجدوها، إنها الأحلامُ، لتُفَسرَ وتُؤولَ، جلبوا لها الأسانيدَ، ساقوا الأدلةَ، مرةً أخري انفتحَت لهم أبوابُ الصحفِ والفضائياتِ وجلساتِ المشاهيرِ، روادُهم كثيرون، هدَهم تَعبُ الحياةِ، عجَزَت عقولُهم، في الأحلامِ ومفسريها هروبُهم من الواقعِ، فيها ما يُغنيهم عن عناءِ التفكيرِ والتدبُرِ.وضعٌ بلا شبيهٍ في عالمِ اليومِ، عقولٌ أُلقيت في المخازنِ، البغبغةُ والانقيادُ أيسرُ من تحملِ المسئوليةِ، الدخولُ في جبِ فتاوي بلا دليلٍ، الاختباءُ في كهوفِ أحلامٍ صنعَتها حياةُ كئيبةٌ، الاحتماءُ بالسحرةِ والمُشعوذينِ والمنجمين، كلُها أعراضٌ مرضيةٌ لمجتمعاتٍ فقدَت أسسَ استمرارِها علي قيدِ الوجودِ، خابَت في المنافسةِ بفعلِها، تعلقَت بأهدابِ اللاعقلِ واللاوعي واللايقظةِ ،،