السبت، 22 نوفمبر 2008

الامبراطوريات لم تعد قابلة للتداول

عبرتاريخ البشرية الطويل، تداولت إمبراطوريات عدة السيطرة علي مقاليد العالم الذي طالته إمكاتاتها؛ ثم كان الاندثار مآل كل منها بفعل الشيخوخة التي هزمتها وسلمت القياد لإمبراطورية جديدة. كان هذا في العالم القديم حيث كان الزمن خارج السيطرة، لكن مع التطور العلمي الهائل الذي شهده العالم اعتباراً من القرن الثامن عشر، لم يعد الزمن عنصر تآكل وعجز، بل تم ترويضه والاستفادة من عظاته. ومع السيطرة علي الزمن لم يعد من المنظور انتقال السيطرة من إمبراطورية إلي أخري بفعله؛ زوال الإمبراطوريات لم يتبقى له إلا عناصر التفتت الداخلي وهو ما تم احتواؤه أيضاً والتحسب له، أو معجزة في زمن عزت فيه المعجزات. العلم روض كل مظاهر الحياة، ولم يترك للصدفة الشيء الكثير؛ لم تعد الأسباب القديمة لزوال الإمبراطوريات سبباً صالحاً في هذا الزمن والأزمان التالية. معني هذه المقدمة لا يخرج عن مدلول واحد، الحضارة الغربية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية ستستمر في فرض سيطرتها علي العالم بما تملكه من قوة علمية هائلة أهلتها للسيطرة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً واجتماعياً. النقاط التالية ستتولي بالتفصيل عرض أسباب السيطرة الغربية المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية وتمكنها حاضراً ومستقبلاً:
1. للعلم مفاتيح لا يعلمها إلا من ابتكرها وعرف أسرارها وإذا ضاعت أمكنه استبدالها. ففي الالكترونيات والاتصالات والحاسبات أسباب السيطرة علي عالم اليوم، وتتركز علومها في الولايات المتحدة الأمريكية وبدرجة أقل في اليابان وبعض دول أوروبا. وإذا قارنا الصناعات الالكترونية في تلك الدول بتلك المصنوعة في الصين أو تايوان أو غيرها لوجدنا بدون عناء أنها تمثل الفارق بين الجد وما دونه بمراحل.
2. في الماضي، كانت الدرجة الواحدة علي مقياس التقدم العلمي تناظر عاماً، لكن في النصف الأول من القرن العشرين تغير الوضع وأصبحت الدرجة الواحدة علي مقياس التقدم العلمي تناظر عشرة أعوام. إلا أن النصف الثاني من القرن العشرين شهد طفرة علمية هائلة، فأصبحت الدرجة الواحدة علي مقياس التقدم العلمي تناظر ما لا يقل عن عشرين عاماً. قبل قدوم القرن العشرين، كان التخلف عن ركب العلم بمقدار عشرة درجات يناظر عشرة أعوام، وهو ما يمكن تعويضه؛ لكن مع التصاعد إلي النصف الأول من القرن العشرين، فإن التخلف عشرة درجات علي مقياس التقدم العلمي يناظر مائة عام، وهو ما يجعل اللحاق بالركب أقرب إلي المستحيل. والآن، فإن التخلف العلمي بمقدار عشرة درجات يناظر تخلف قرنين من الزمان، يستحيل تعويضهما في عالم فائق السرعة.
3. العلم يشمل كل نواحي الحياة، يوجهها ويحميها؛ العلم الحديث ليس مجرد معامل وأبراج عاجية لكنه طال السياسة والاقتصاد و التعليم والصحة والاجتماع والحرب والرياضة والإعلام. بالعلم تقوي الأمم وتتطور، لم تعد الشعوب مجرد تابع، ولم تعد أنظمة الحكم مؤبدة منزهة؛ لم تعد العزوة في العدد لكن في الكفاءة. انتهي عهد إعلام الترويج والتلميع واستبدل بالإعلام الكوني حيث أضيئت كل نقطة علي الكرة الأرضية وما حولها؛ ما أيسر استبدال الإعلام الأجوف بضغطة زر.
4. ازدهار العلم مرتبط بمناخ متكامل، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً؛ إنه لا ينمو في ظل الديكتاتورية والفقر والجهل والمرض والأنانية. لنضرب مثلاً أقرب إلي التصور بفرق الكرة الأوروبية، إنها تزخر بالعديد من اللاعبين الأجانب المهرة؛ لماذا لا يثمر هؤلاء اللاعبون بنفس القدرفي بلادهم الأصلية ؟ ببساطة لأن المناخ فيها منقوص. في الدول المتقدمة علمياً، لا تعتبر الرياضة لعبة كما نطلق عليها، لكنها فرع من الفروع تصب فيه علوم شتي، إنها تكتيك وتغذية ورعاية صحية ونفسية. ما ينطبق علي اللاعبين الأجانب يشمل كل عالم ومقدرة أجنبية تزدهر وتثمر في المجتمعات المتقدمة علمياً بالولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا؛ المناخ في البلدان الأصلية طارد، الشهرة والذيوع والمال لأهل الحظوة والواصلين. تغير مفهوم الوطن، لم يعد النقطة التي شهدت الميلاد وبعض سنوات العمر، إنه الوسط الحاضن الذي يحقق المعيشة الحرة الآمنة العادلة المحترمة.
5. إذا افترضنا جدلاً أن الولايات المتحدة الأمريكية زالت بكل جبروتها، فإن مفاتيح العلم ستزول معها، ولن يبقي للقوي التالي لها إلا استكشاف المشوار بإمكاناتها ومعلوماتها الأقل. من المؤكد حينئذ أن العالم سيرتد إلي الوراء من الناحية العلمية علي الأقل، مع ضرورة عدم إغفال أن المساحة الشاسعة للولايات المتحدة الأمريكية بما عليها من قدرات بشرية وطبيعية هائلة يستحيل تعويضها في عالم اليوم بأي قوة منفردة. أي تصور افتراضي لبديل لا يمكن أن يكون إلا من خلال التجمعات، وهي موجودة حالياً في دول الاتحاد الأوروبي أو اليابان وكوريا الجنوبية بدرجة أقل لضعفهما النسبي عسكرياً.
6. هل الحضارة الغربية بلا أخلاق؟ قبل أن نجيب علي هذا التساؤل لنُعرف الأخلاق ومكوناتها. الأخلاق هي مجموعة القواعد، التي لا يشترط أن تكون مكتوبة، والتي من خلالها تتحدد العلاقة التبادلية بين الفرد والمجتمع. علي الفرد احترام خصوصية غيره وعدم تعدي حدود المعاملات سواء في المسكن أو في الطريق أو في العمل أو في سائر الأنشطة الاجتماعية؛ وعلي المجتمع أن يكفل للفرد الحرية والكرامة والعدالة والمعيشة الكريمة والمشاركة في صنع حياته من خلال الانتخابات النزيهة. في الدول الغربية الحدود واضحة في الحياة الخاصة و في العمل، لا مجال للإسراف في الإجازات والتصاريح أو الرغي والهمبكة؛ النظم السياسية لا تستطيع تجاهل إرادة الشعوب التي انتخبتها. الخلاف بين مجتمعاتنا الشرقية والمجتمعات الغربية في مفهوم الحريات الخاصة الممكن إتاحتها للأفراد، وهو ما ينبغي علي كل طرف تقديره بدون إلصاق تهم اللأخلاق أو التخلف. لكن لا بد لنا أن ننظر فينا، لعلاقات الفرد بغيره وبمجتمعه لنري مقدار ما نحن فيه؛ وما أحسب أن مخالفات المرور ومشاجرات الجيرة و تدني عدد ساعات العمل، وفقاً للإحصائيات الرسمية، إلا دليلاً علي حالنا. لأين يتجه تيار الهجرة؟ إلي مجتمعاتنا أم منها؟ الإجابة فيها الكفاية.
التحليل العلمي لا مجال فيه لأحلام اليقظة أو المنام ولا للعواطف، لا يمكن الأخذ بالأوهام أو التمني؛ ومن الواجب أن نكتب لوجه الله، بتجرد، ابتغاءً لراحة البال.

ليست هناك تعليقات: