الثلاثاء، 10 يونيو 2008

الفوضي في مصر .. غيرُ خلاقةٍ



شاعَ مصطلحُ الفوضي الخلاقةِ بعد الغزوِ الأمريكي للعراقِ ضمن ما صاغَته كونداليزا رايس وزيرةُ الخارجيةِ الأمريكيةِ. الفوضي المعروفةُ لا يمكنُ أن تكون خلاقةً، الفوضي التي نعيشُها هي الرجوعُ للخلفِ بسرعةِ الصاروخِ الذي لا نصنعُه. دَعنا إذن من الفوضي الخلاقةِ، علي من صاغوها الدفاعُ عنها وشرحهُا وتفسيرُها، علينا أن نتعمقَ فيما نحن فيه من تعثرٍ وتخبطٍ وتدهورٍ وتردٍ. ما وصلَت إليه مصرُ مسئوليةٌ مشتركةٌ بين النظامِ ومعارضيه والشعبَ، علي حدٍ سواءٍ، لا إلقاءَ فيه للتهمِ علي طرفٍ بعينِه، الكلُ شركاءٌ في هذه الفوضي غيرِ الخلاقةِ.
في الستينات، قبل هزيمةِ 1967، كانت مصرُ تحبو في عالمٍ في طورِ التشكيلِ، لم تكن الخريطةُ السياسيةُ قد أخذت شكلَها الحالي، لم يكن للعالمِ مركزُ ثقلٍ واحدٍ، كانت الولايات المتحدةُ الأمريكيةُ والاتحادُ السوفيتي قبلَ تفكُكِه يتشاركان القيادةَ. في ظلِ هذا الوضعِ السياسي تمكنت مصرُ من احتلالِ مكانةٍ سياسيةٍ في ظلِ حمايةِ الاتحادِ السوفيتي المذهبيةِ، مكانةٌ سياسيةٌ لم تتواكب معها تماماً مكانةٌ اقتصاديةٌ وصناعيةٌ، أخذَت شعاراتِ الاتحادِ السوفيتي التي أدَت فيما بعدٍ إلي انحلالِه، حقوقُ العمالِ والفلاحين علي الورقِ وأمام الميكروفوناتِ قابلتها تنبلةٌ في العملِ وتنطعٌ، أجرٌ ومغانمٌ وهميةٌ في مقابلِ ترديدِ شعاراتٍ سياسيةٍ، لا عرقَ ولا مجهودَ بأمانةٍ واخلاصٍ. غابَت الحريةُ، سادَ التطبيلُ، غرَقَت مصرُ في أوهامِ العظمةِ والنصرِ والحضارةِ، حتي كانت الهزيمةُ التي زلزلَت كيانِ الشرقِ الأوسطِ إلي الأبدِ وسحَقت معها مكانةَ مصر.
فترةُ السبعيناتِ، بعد أكتوبر 1973 أعادَت لمصرِ بعضاً من كبرياءٍ مفقودٍ، طمعَ العربُ في الباقي، تتطاولوا عليها، عايروها، وجاءَتهم معاهدةُ السلامِ عام 1977 لتكون فرصةَ عمرِهم للقضاءِ عليها واحتلالِ كرسي قيادتِها في المنطقةِ، لا قادوا ولا عادَت مصرُ لمكانتِها. بدأت شعاراتٌ جديدةٌ في الظهورِ، كالعادةِ بلا دراسةٍ، فجأةً، أصبحَ السلبُ والنهبُ والفهلوةُ رموزاً لمرحلةٍ أفلَت سريعاً دون أن تنتهي.
منذ الثمانينات وحتي الآن، مصرُ تستمرُ في التخبطِ، أوضاعُها الاقتصاديةُ لا تطاوعَها، صناعتُها متخلفةٌ نمطيةٌ، العِمالةُ غيرُ مؤهلةٍ فنياً وأخلاقياً من فرطِ تدليلِها بشعاراتٍ قضَت علي الكتلةِ الشيوعيةِ كلِها، مفهومُ التفاني في العملِ والإخلاصِ فيه فُقِدَ إلي غيرِ رجعةٍ، في كلِ تعاملاتِ المجتمعِ، اِستبدِلَ به شعارُ خُذ الفلوس واجري. سياسياً، استمرَ مسلسلُ تعيينِ من يدينون بالولاءِ، رُغمَ رداءةِ أدائهمُ وانحطاطِ فكرِهم أن لم يكن انعدامُه، أُجلِسَ علي كراسي المسئوليةٍ من هم دونِها، من الطبيعي أن تعمي البصيرةُ عن التخطيطِ للمستقبلِ وأن تُبَددَ المواردَ الشحيحةَ علي الأوهامِ والأحلامِ والمظاهرِ.
سقوطُ شعاراتِ القوميةِ أمامَ المحنِ العاتيةِ التي أضاعَت الأرضَ والوطنَ والفكرَ والكرامةَ فتحَ البابَ واسعاً أمام شعاراتٍ قديمةٍ، أبداً في حالةِ كمونٍ, انتظارٍ، تحينٍ للحظةِ، شعاراتٌ دينيةٍ، لا تعرفُ التسامحَ ولا تعترفُ بالتعددِ ولا تقبلُ بالآخرِ ولا تسمحُ بالحوارِ. غسلَت أدمغةً مطحونةً، تلونَت، المهمُ أن تعلو وتتمكن، ساعتَها ستبطشُ وتقسو، لن ترحم؛ قتلَت، دمرَت، كررِت تماماَ ما أسقطَها منذ مئات السنين، وكأن التاريخَ يعيدُ نفسَه، تاريخُها فقط، أما الأخرون فقد اتعظوا من تاريخِهم وتاريخِ غيرِهم، سادوا بعد أن فهِموا وتمعنوا.
الشعبُ المصري، أيضاً، تغيرَ، باستمرارِ في حالةِ رفضٍ وتذمرٍ وعدمِ ثقةٍ في كلِ ما يُقالُ أو يُفعلُ، من تداولوه لم يراعوه أو يعتبروه، خسروه إلي غيرِ رجعةٍ، كان ولا يزالُ كماً مُهمَلاً في كلِ الحساباتِ، النظامُ ومعارضوه من أصحابِ الحلولِ علي حدٍ سواءٍ، كلُهم يرونَه وسيلةً للسلطةِ، مجردَ أداةٍ، سلماً عليه يصعدون، حجارةً يلقونها علي خصومِهم؛ وقودٌ هو لشعاراتٍ مذهبيةٍ، حياتُه فقدَت قيمتَها، العددُ في الليمون وزي الرز. من فرطِ ما أهملوه وتمادوا في تجاهلِه عاشَ في داخلِ ذاتِه، كلٌ وهواه، منهم من وجدَ في الرجوعِ إلي كهوفِ الفكرِ المذهبي ملاذَه، ومنهم من تاه في صحراءٍ بلا قيودٍ من فكرٍ وأخلاقٍ، لا نظامَ ولا انتماءَ، لا علمَ ولا تخطيطَ، عشوائيةٌ وخزعبلاتٌ، في البيتِ والشارعِ والمصنعِ والمدرسةِ والجامعةِ والشركةِ والمؤسسةِ، في كلِ مكانٍ.
مصرُ تترنحُ، زاغَ بصرُها، تاه منها الأملُ، من قادوها عادوا بها للخلفِ، من يعارضونهم لا يريدون إلا النزولَ بها إلي الكهوفِ والمغاراتِ، مصر لم تعُد مركزَ الاشعاعِ المتفردَ، الأصغرُ منها تخطوها بالتخطيطِ، بالعملِ، بالإخلاصِ، بالمالِ، بكلِ ما فقدته مصرُ ولم تجد له بديلاً، إلا الفوضي،،

ليست هناك تعليقات: