السبت، 28 يونيو 2008

الثانويةُ العامةُ..وامبراطوريةُ الغشِ


الثانويةُ العامةُ مستقبلُ طالبٍ وأسرةٍ ومجتمعٍ، بل أيضاً وزارةٍ وحكومةٍ ونظامِ حكمٍ، إنها تغرسُ الانتماءَ أو النقمةَ إنها النجاحُ أو الفشلُ لشعبٍ بأسرِه، إذا بُنيت علي عدلٍ ومنطقٍ استقامَ الحاضرُ والمستقبلُ، وإذا كانت العنترياتُ رائدَها فلا أملَ ولا وقوفَ إلا علي الدماغِ مع عجينِ الفلاحةِ. انطلقَ الغضبُ براكيناً لما فاحَت روائحُ الغشِ في امتحاناتِ الثانويةِ العامةِ، لجانٌ خاصةٌ بالمحظوظين من الطلبةِ، أباؤهم أعضاءُ مجلسِ شعبٍ ورجالُ شرطةٍ وغيرُهم من الواصلين، من المسئولين عن أمنِ المجتمعِ وسلامتِه، امتحاناتٌ تُباع عيني عينك، فضيحةٌ، لأنها انتشرَت لا للعلم بها، الغشُ وأكلُ حقوقِ الغيرِ في الثانويةِ العامةِ وغيرِها شائعٌ، سِلوُ مجتمعٍ، قانونٌ غيرُ مُعلنٍ، معلومٌ للكافةِ، ارتضوه، تعايشوا معه، تباكوا علي الظلمِ وضياعِ الفرصِ.
الغشُ يرجعُ لعشراتٍ مضَت من السنين، احتيالٌ علي مشاعرِ الرأي العامِ بالامتحاناتِ التافهةِ وبإعادةِ توزيعِ درجاتِ الامتحاناتِ الأكثرِ صعوبةٍ، بنفخِ المجاميعِ علي غير طبيعتِها ثم نقلِ مأساةِ القبولِ في الكلياتِ المرغوبةِ لمكتبِ التنسيقِ. إنه نفسُ نهجِ الإعلانِ عن العلاوةِ إياها ثم سحبُها وأكثرُ بزياداتٍ مجنونةٍ في الأسعارِ، إنه الكلامُ بلا مللٍ عن الوقوفِ بجانبِ محدودي الدخلِ ثم تضييقِ حياتِهم بالجبايةِ التي تعودُ لعهودِ المماليكِ، إنه التمادي في الرغي عن الديمقراطيةِ والإصلاحِ مع الاستمرارِ علي الكراسي لأجالٍ وآجالٍ، إنه أيضاً نهجُ المعارضين رافعي شعاراتِ الحلولِ لاحتلالِ ذاتِ الكراسي بغرضِ تطبيقِ شعاراتِهم التي لن يكونُ من ورائها إلا القضاءُ علي الدولةِ بمفهومِها القانوني والسياسي والاجتماعي، إنه شركاتُ توظيفِ الأموالِ بدعوي الربحِ الحلالِ ثم الطيرانِ بالفلوسِ، إنه المنتجاتُ المعطوبةُ التي تضربُ الحياةَ، إنه الانتخاباتُ كلُها، أنه سَنُ قوانيناً تحت ضغطِ المصالحِ ودعاويٍ براقةٍ رجعيةٍ، إنه اِدعاءُ التعليمُ ونصبُ مؤتمراتِ تطويرِه، إنه المعاملاتُ كلُها؛ إنه دولةٌ ومجتمعٌ اعتادوا تبادلَ الغشِ، احترفوه، جميعاً، علي حدٍ سواءٍ.
في دولةِ الغشِ الغلبةُ للصوتِ الأعلي، لمن يجيدون الإدعاءَ، التظاهرَ، التباكي، لقد نجحت نقابةُ مهنيةٌ في تحديدِ أعدادِ الطلابِ المقبولين بكلياتِ الطبِ، منعَت انشاءَ كلياتٍ خاصةٍ، بحجةِ الحفاظِ علي مستوي المهنةِ، بحجةِ الزيادةِ في أعدادِ الأطباءِ، تناست سوءَ توزيعِهم علي مستوي المحافظاتِ والقري والنجوعِ، أغمضت العينَ عن مصائبٍ ارتكبَها كباراَ منهم. المنطقُ العادلُ يحتمُ أن تزدادَ نسبُ القبولِ في جميع الكلياتِ علي حدٍ سواءٍ بمعدلٍ قريبٍ من معدلِ زيادةِ المتقدمين للامتحانِ، وإلا فالبديلُ هو الاستمرارُ في ارتفاعِ المجاميعِ إلي حدودٍ خرافيةٍ تجافي الأصولَ البديهيةَ وتشيعُ عدم الاستقرارِ والرضا في مجتمع يغلي أصلا. التعللُ بمحدوديةِ القدرةِ الاستيعابيةِ للكلياتِ المرغوبةِ لا يشفي غليلاً ولا طموحاً، ما ذنبُ الأسرِ في إخفاقِ مؤسساتِ الدولةِ ككلِ في التأقلمِ مع الزيادةِ الطبيعيةِ للسكانِ مع العلمِ بانخفاضِ معدلاتِها؟ أضفُ حكايةَ الجودةِ كشعارٍ جديدٍ لإحباطِ المجتمعِ المصري ولتحميلِه وزرِ تحديدِ أعدادِ المقبولين بما يُسمي كلياتُ القمةِ، شعارٌ هلاميٌ دخلَ موسوعةَ الشعاراتِ، موسوعةٌ الشماعاتِ.
لا مجالَ هنا لترديدِ مقولةِ إن زيادة َالسكانِ هي سببُ المشاكلِ والتغني بها كشماعةِ فشلٍ ومعاقبةِ الشعبِ ووأدِ آمالِه من خلالِها، الطبقةُ المتوسطةُ لا تستثمرُ إلا في أبنائها، هم ثروتُها ومستقبلُها، هم أملُها وفرحُها. ألم يكن الحدُ من الإنفاقِ اللامسئولِ في العديدِ من المجالاتِ كافياً للاستجابةِ للطموحاتِ العامةِ؟ أما تعللُ مافيا بعض النقاباتِ المهنيةِ التي تزعمُ أن في قلةِ الأعدادِ بالكلياتِ المرغوبةِ توفيراً لتعليمٍ أفضلٍ فمردودٌ عليه، صفحاتُ الحوادثِ تحفلُ بأخطاءٍ قاتلةٍ لمن تعلموا أيامَ السمنِ البلدي ووصلوا إلي مراتبِ الأستاذيةِ واحتلوا بإعلاناتِهم صفحاتِ الجرائدِ وميكروفوناتِ وشاشاتِ الإعلامٍ. أيضاً، ما نحن فيه من معاناةٍ وتدني أوضاعٍ داخليةٍ وخارجيةٍ نتيجةٌ طبيعيةٌ لنهجِ اللاتخطيطِ الذي سلكَه من تولوا المسئوليةَ بعد سنواتٍ من الدراسةِ أيامَ قلةِ الأعدادِ والطراوةِ. هذه النقاباتُ المهنيةُ المتباكيةُ تريدُ تخفيضَ الأعدادِ تكريساً لمصالحِ القلةِ عاليةِ الصوتِ التي ترغبُ في الانفرادِ بكل المزايا الاجتماعيةِ والماديةِ.
لقد ارتفعت المجاميعُ في الكلياتِ المرغوبةِ العام الماضي بسبب تحديدِ أعداد المقبولين بها علي الرغمِ من المانشيتاتِ الحمراءِ الزاعقةِ عن زيادةِ أعداد ِالمقبولين بالجامعاتِ، من العيبِ خداعُ الرأي العامِ وتصورُ أنه لا يقرأ ولا يفهم ولا يستوعب ولا يحلل ومن اللازمِ طرحُ التساؤلِ العامِ هل تحديد أعداد المقبولين بالكلياتِ المرغوبةِ يتمُ لصالحِ توجيه الطلابِ لتعليمٍ خاصٍ؟ لأي مصلحةٍ يُزرعُ عدمَ الاستقرارِ والغضبِ في المجتمعِ؟ هل مسلسلُ الثانويةِ العامةِ أحدُ وسائلِ الإلهاءِ العامِ؟
ازدادت أعدادُ الناجحين في الثانوية العامة في الأعوامِ الماضيةِ بنسبٍ غيرِ طبيعيةٍ، دخلَت المجاميعُ موسوعةَ الأرقامِ القياسيةِ، للغشِ والخداعِ، هل ثبَتَ أن المجتمعَ المصري يعجُ بالعباقرةِ؟! لقد كان الطالبُ الفاشلُ هو من يحصلُ علي 95% أما الآن فهو الحاصل علي 98,7%!! من المؤكدِ أن الفشلَ ليس له لكنه للنظامِ بكل مؤسساتِه التي أورثت الحقدَ والكراهيةَ وعدمَ الانتماءِ في أجيالٍ وأجيالٍ. ملهاةٌ مضحكةٌ مبكيةٌ مؤسفةٌ، يُصاب كلُ مسئولٍ أجلسَ علي الكرسي بداءِ الحكمةِ، تراه ناصحاً مُشوِحاً مُستفيضاً فيما يكُر ويُبغبغُ متصوراً أنه يعلمُ وأننا نجهلُ، غافلاً عن أنه مجردُ كبشِ فداءٍ، طالَ به زمنُ الكرسي أو قَصُرَ!!
لقد كتبنا لأننا لا نملكُ السكوتَ علي وضعٍ يُجافي كلَ عدلٍ ومنطقٍ، لا يجوزُ لمتخذي القراراتِ الرضوخِ لدعاوي تضرُ بالصالحِ العام ِأو ترديدِ أقاويلٍ بلا سندٍ صحيحٍ أو الركونِ للعشوائيةِ. أسلوبُ المعالجةِ يعكسُ كيف يتصدي نظامُ حُكمٍ لأكبرِ مشاكلِه؛ للشعبِ حقوقٌ أساسيةٌ وحواسُه من عيونٍ وأذانٍ وأيضاً عقولٍ سليمة.ٌ
قبلُ الختامِ، عند إعلانِ نتيجةِ الثانويةِ العامةِ تجبُ مراعاةُ أننا بصددِ ثلاثةِ امتحاناتٍ مختلفةٍ للعلومِ والرياضياتِ والدراساتِ الأدبيةِ، ترتيبُ الأوائلِ بالمجموع المطلقِ لا يتفقُ إذن مع العلمِ والتربيةِ لأنه سيرجحُ طلاباً علي غيرِهم دونما سندٍ، إلا إذا كان غشاً.
الثانويةُ العامةُ ليست مجردَ شهادةٍ، إنها صورةٌ صارخةٌ لمجتمعٍ يتعجبُ لانكشافِ الغِشِ علناً لا لوجودِه، يُدمنُ الغِشَ، غِشُ نفسِه دون سواها، مع الأسفِ،،

ليست هناك تعليقات: