الثلاثاء، 17 يونيو 2008

تَحَجبي تَتَزوجي

أُريدُ عروساً متدينةً، جملةٌ تتكررُ في إعلاناتِ الزواجِ، طلباً للعرائسِ، المفهومُ هنا أن التدينَ يظهرُ في الملبسِ، قبل ما هو غيرُ مرئي وغيرُ ظاهرٍ، كالأخلاقِ ودرجةِ التعليمِ والتدينِ الحقيقي. جملةٌ أصبحت عنواناً لمرحلةٍ نمرُ بها في مصر، أكثرُ من أي بلدٍ آخرٍ في هذه المنطقةِ أو في غيرِها، تتوازي مع حالةِ جدبٍ سياسي واقتصادي واجتماعي طالَ بها الأمدُ. اِنحسرَ الفكرُ والتمعنُ في الأمورِ وحلَت مكانَهم النظرةُ إلي ما يطفو علي السطحِ ولو أخفي القاعُ كلَ الرواسبِ والتعفنِ، أُودِعَت العقولُ لدي مفتيي الفضائياتِ يملئونها بما يحلو لهم وبما ينفخُ جيوبَهم دولاراتاً ويجعلُ من دنياهم نعيماً وحوراً حساناً.
في متابعةِ صفحاتِ الحوادثِ من العبراتِ والعظاتِ ما يكفي للدلالةِ علي ما تردي إليه مجتمعٌ تقوده القشورُ والمظهريةُ وتُرتكبُ فيه الجرائمُ بمختلفِ أنواعِها من الذين استوفوا شكلاً يبدو إلي الدين منتسباً لطالما بالغوا فيه طمعاً في المزيدِ من مغانمٍ لأنفسِهم استحلوها. الأمرُ تجاوزَ حدودَ إعمالِ العقلِ والإقناعِ وأصبحَ محصوراً في الإكراهِ استغلالاً لحالةِ اختناقٍ شحَ فيها الرزقُ وتلاشَت معها فرصُ الحياةِ الأدميةِ والعملُ والمسكنُ والمأكلُ والزواجُ من أهم مقوماتِها. مع النُدرةِ يكونُ استغلالُ الحاجةِ، لي الأذرعِ، الضغطُ المعنوي والمادي، وسيلةُ من يريدون السلطةِ للترويجِ لأفكارِهم لا تقدمَ المجتمعِ صناعياً واقتصادياً واجتماعياً.
مطلوبُ فتياتٍ محجباتٍ للوظائفِ، مطلوبُ فتاةٍ متدينةٍ للزواجِ، تعبرُ عن مرحلةِ أزمةٍ خانقةٍ وعن استغلالِها، ربطٌ بلا رابطٍ، لا ارتباطَ بين مظهرِ التدينِ وبين حسنِ أداءِ العملِ أو مقوماتِ التوفيقِ في الزواجِ، إكراهٌ هو لإثباتِ الوجودِ والكثرةِ والغلبةِ، كثرةٌ مكسورةٌ، لا يهمُ، غلبةٌ في حروبٍ لا يعلو فيها إلا الصوتُ وتنعدمُ معها الآمالُ في التقدمِ والرقي في عالمٍ لا يرحمُ متخلفاً بفعلِه.
مظاهرٌ تستهدفُ أكثرَ ما تستهدفُ المرأةَ، كأنها الحائطُ المائلُ لمجتمعٍ يتراجعُ وتخبو فيه الثقافةُ والحوارُ وتقبلُ الآخرِ سواء كان من نفسِ الديانةِ أو من دياناتٍ أخري. مجتمعٌ أُصيبَ بانفصامِ الشخصيةِ، حجابُ أعلي رأسِه يتناقضُ مع ما تحته، لحيةٌ وجلبابٌ مع تحايلٍ وتلاعبٍ وقسمٌ مُغلظٌ بالباطلِ كلِه، التعاملاتُ فيها كلُ الغشِ. صفحاتُ الحوادثِ وبريدُ القراءِ لا تكذبُ، ليست كلامَ أفلامٍ ومسلسلاتٍ ولا كلامَ محدودي رؤيةٍ، ليست مؤامراتٍ ولا غيرةً ولا عُقَدً.
العالمُ الذي يتفقُ داخلُه مع ظاهرِه وصلَ إلي المريخِ، مجتمعُنا المأزومُ تزدادُ عِللُه، لكن وماله، المهمُ أن تبدو متدينةً حتي تتزوجُ وتعملُ، أما الرجلُ فلو كانت فيه عبرُ الدنيا ومواعظُها فليس مخاطباً بحكايةِ التدينِ، سواءَ جلسَ علي كرسي السلطةِ رافعاً شعاراتِ الحلولِ أو كان دونَه في أي مكانٍ.
بيننا وبين العالمِ المتقدمِ فراسخٌ، بيننا وبين السفسطةِ والحروبِ مع طواحينِ الهواءِ كلُ الودِ والمحبةِ،،

الأحد، 15 يونيو 2008

البحث العلمي في الجامعات .. حقيقة أم خيال؟



البحث العلمي يشغل حيزاً كبيراً من أحاديث هذه الأيام خاصة في الندوات التي يعقدها مجلس الشوري. وإذا كان التقرير الذي نُشر بالصين عن أفضل 500 جامعة علي مستوي العالم مستبعداً أي جامعة مصرية وعربية قد تسبب في صدمة مضافة لتلك التي أصابتنا بعد صفر المونديال، أشهر صفر في العالم، فإنه من الضروري أن نشارك في الندوات المثارة برأي لا ينتمي إلا لصاحبه لا مدفوعاً بمكافأة أو برغبة في الجلوس علي كرسي أو الاستمرار في شغله:
1. منذ صدور تقرير ترتيب أفضل 500 جامعة علي مستوي العالم والمسئولون المصريون يحاولون تبرئة ذمتهم وتحليل كرسيهم، تارة بالتشكيك في التقرير وتارة بادعاء أن الأمور ليست علي هذه الدرجة من السوء. ردودهم مرسلة بلا واقع يساندها وبلا دعم من أراء أساتذة الجامعات المصرية المبعدين تماماً عن الندوات والجلسات بكل أشكالها؛ انحصرت الوجوه والآراء في أشخاص معروفين بمناصبهم أو بطموحاتهم.
2. يستحيل أن ينهض البحث العلمي أو أن تقوم للجامعات راية والإنفاق عليها بعيد تماماً عن قائمة الأولويات، فالكليات خالية من أعضاء هيئات التدريس لانشغالهم وراء لقمة العيش في الجامعات الخاصة، وفي مكاتبهم وعياداتهم. كيف يقوم بحث علمي وأعضاء هيئات التدريس بالجامعات مستنزفون في الجري وراء لقمة عيش شحيحة؟ أيهم أولي، حياتهم ومتطلبات أسرهم أم البحث العلمي والتدريس الحكومي؟ إذا تخلت عنهم الدولة وضعتهم في آخر الاهتمامات هل بامكانهم إصلاح أحوال مالت وآلت للسقوط؟ هل يقف ما مال بأكتافهم وحدها في دولة ناصبتهم الجفاء، علي أقل الفروض، ولم تتوان عن إظهاره؟ أما الطلاب فغائبون إما لعمل يسندهم أو يشغلون فيه مكاناً لما بعد التخرج وقت أن يعز العمل، وإما جالسون في كافتيريا أو مقهي؛ نسب حضور المحاضرات لا تزيد عن 50% في أحسن الأحوال.
3. يُقال أن الجامعات المصرية تضم نخبة من الأساتذة الكبار بعلمهم، وهذا قول صحيح في ظاهره لا واقعه، لذا فمن اللازم ألا يمر مرور الكرام، إذ أن هؤلاء الأساتذة بزغوا بكدهم وعملهم، لا فضل للجامعات المصرية فيما أنفقوا من جيوبهم وعرقهم. جامعات بلا مكتبات ولا معامل لا يُرجي منها لا بحث علمي ولا تدريس. من ناحية أخري، لابد من التمييز بين الدراسات العلمية النظرية كالإنسانيات والدراسات العلمية العملية، ففي الدراسات العلمية النظرية يمكن للأستاذ الجامعي أن يقف، إلي حد ما، علي قدميه بمجهوده الفردي، لكن في الدراسات العلمية العملية تعجز القدرات الفردية لأعضاء هيئات التدريس، فالمعامل والأجهزة هائلة التكاليف والمكتبات والدوريات العلمية تفوق طاقتهم المادية بمراحل. ومن هنا يتضح لنا مدي التدهور العلمي الذي نرزح فيه رغم تقارير نفي التردي التي يصدرها الجالسون علي الكراسي ومستشاروهم وأعوانهم.
4. يقال ضمن ما يقال في الندوات أن التقارير التي تصف أحوالنا فيها الهوي والغرض وأن نشرها يضر بالجامعات في عالم جديد ويسئ لسمعة أعضاء هيئات التدريس بالجامعات ويحط من معنوياتهم، وهي مقولات لا تثير إلا العجب. هل ظلمنا صفر المونديال؟! هل من وضعوه التفتوا لكل ما قُدم لهم من أنواع وصنوف الطبل والزمر والتعهدات الغليظة بتوفير أفضل مونديال في التاريخ؟! إن العالم علي دراية بحالنا ويقومنا بالعلم والمنطق، لكن الكرسي عندنا يغشي معظم جالسيه فلا يروا ما يسيئهم ويهدد طول جلستهم عليه، إنهم مسئولون عن التدهور مشاركون فيه بالصمت والسلبية ونوازع أنفس أمارة بكل سوء، إنهم لا يرون ما يراه غيرهم بحق، أساتذة الجامعات المبعدون المنسيون، عمداً، يرون لكن لمن؟
5. أدي نظام تعيين عمداء الكليات إلي انفصال تام بين الكليات والدولة الرسمية، فلم يعد العمداء المعينون همزة الوصل بين أعضاء هيئات التدريس والسلطات المختلفة في الدولة، أخذت الأحوال بالتالي في الانهيار المتراكم دون أحساس حقيقي بها، لم تنقل الصورة بالحق لأن نقلها ليس من صالح عمداء يهمهم في المقام الأول الاستمرار في الجلوس أو الصعود.
6. تعيين الوزراء والمسئولين يجعل منهم تابعين لمن عينهم لا أصحاب رأي أو فكر، غير مطلوبين منهم أصلاً، وهو ما يجعلهم مهتزين مشدودين لكرسي لجم ألسنتهم. وتتكرر ذات الدورة عندما يوظفوا مستشاريهم ومعاونيهم، أشخاص من ذوي التطلعات البائدة أو المستقبلة، ماضيهم الوظيفي الحقيقي يُسأل عنه زملاؤهم قبل أي ملصقات أو حفلات برعوا في إظهار أنفسهم من خلالها، تقاريرهم غالباً ما تكون إما لإرضاء صاحب الكرسي أو لتصفية حسابات قديمة ترجع إلي أيام وظيفة شغلوها ولا تزال في أذهانهم أو لكرسي يطمعون فيه. نظام كهذا يستحيل أن يبني رأياً أو فكراً أو تطويراً، إنما إلقاء تهم أو تجميل لواقع مرير يستحيل تجميله.
7. لا يمكن أن نغفل أن جزءاً هاماً من تدهور الأحوال يرجع إلي أعضاء هيئات التدريس ذاتهم بعد أن تراجع بفعل ظروف المجتمع وفعلهم دور الجامعة التربوي والتعليمي، لا هم قادرون علي التدريس بأمانة و لا هم قادرون علي البحث العلمي أو وضع خطط للأبحاث العلمية، فتحكم فيهم طلاب الدراسات العليا، وأصبحوا هم الذين يُشَرِفون عضو هيئة التدريس بالتسجيل له لا معه!! يختارون المواد السهلة لا المرتبطة بالبحث والمشرف الذي لا يقرأ ولا يراجع!! لما وجع الدماغ في مجتمع لا يحترم العلم هان فيه أعضاء هيئات تدريس وهانوا أيضاً علي أنفسهم؟!
8. نظرة إلي المدرجات والمعامل خاصة في الجامعات البعيدة عن العين، تكشف ما تنفيه التقارير الرسمية أو الشبه رسمية، المدرجات متربة، دخولها لا يكون إلا بالعفريتة، المناديل الورقية والمخلفات ملقاة في كل مكان، الجرادل والمقشات ترصع الأركان، الكراسي والمناضد في حالة سيئة، الإضاءة ضعيفة، النوافذ بلا زجاج أو لا يمكن إغلاقها، أما المعامل فحالها ليس بالأفضل، وبالطبع فإن دورات المياه لا تصلح للدخول الأدمي. جزء كبير من هذا الحال يرجع إلي سلوكيات لا منتمية ولا واعية من الطلاب، لكن جزء آخر يرجع إلي عدم اهتمام الإدارت أو عجزها.
9. نظرة أخري إلي العمالة تظهر ما يؤسي، فقد نقلت عشوائيات حياتها إلي الجامعات بدلاً من أن يرتقي بها محل العمل!! بيع البسكويت والمناديل الورقية والمشروبات علي أبواب المدرجات والمعامل، تنادي وشجار بأصوات مرتفعة، ملابس رثة المظهر والرائحة، أحياناً ما تفرض سطوتها ببيع لوازم المعامل؛ نست مهمتها الأصلية، لم تعد تمسك بالمقشة والجردل إلا للضرورة!!

أليس من الطبيعي بعد كل ما سردنا أن تتمحور أقاويل الرد علي أي تقارير تكشفنا حول مهاجمتها بلا أسانيد حقيقية، إنها عقد اضطهاد مستمرة تلازم من رحل عنهم عالم جديد في كل مفرداته، لم يتمكنوا من اللحاق به فجلسوا بجوار الحائط يلعنونه. ما نراه علي ساحة الندوات والردود المرسلة لم يغدُ إلا شهادة يغلفها تساؤل أساسي، هل هي حقاً من أهل الجامعة والبحث العلمي؟ أهل الجامعة الحقيقيون في واد آخر، أُبعدوا إليه وشُغِلوا فيه بما لا يؤدي إلا إلي المزيد من تدهور الأحوال. إنها ضجة مثيرة للرمال والأتربة، اختنق فيها الهواء النقي,
اللهم لوجهك نكتب، مرارة ما نكتب هي الواقع مع الأسف، من الزيف أن نحليه، لو حاكينا غيرنا فلا خير فينا،،

السبت، 14 يونيو 2008

في اختيارِ أهلِ الكرسي



الكرسي مطمحُ الكثيرين، حلمُ حياتِهم، يهونُ من أجلِه الأهلُ والأصدقاءُ، لا هزلَ في حبِه، لا هوادةَ في الاستمرارِ عليه؛ الكرسي هو الشهرةُ، السلطةُ، المالُ، مفتاحٌ هو لكلِ الأبوابِ. الكرسي في بلادنا غير الكرسي في عالمٍ آخرٍ يحددُ كيف ومتي يكون الجلوسُ عليه. اختيارُ أهلِ الكرسي يعكسُ فلسفةَ حكمٍ، مواصفاتُهم الشخصيةُ ونقاطُ ضعفِهم هي الاعتبارُ الأولُ، الكفاءةُ موجودةٌ في الكثيرين لكن المقدرةَ الشخصيةَ هي الفيصلُ.
ما هي إذن المواصفاتُ الشخصيةُ التي تَفضلُ شخصاً علي آخرٍ عند الاختيارِ، الإجابةُ ليست عسيرةً، العديدُ من أهلِ الكرسي يتصفون بسلاطةِ اللسانِ، بالقدرةِ علي الكيدِ والتحريضِ وتدبيجِ المؤامراتِ، بإرهابِ الزملاءِ والمرؤسين، بلي الحقائقِ، ببلعِ الإهاناتِ في سبيلِ طولِ الجلوسِ، صفاتٌ ليست عشوائيةً إنما متكاملةً، لا تتوفرُ في الكثيرين. لماذا تحديداً هذه المواصفاتُ؟ أصبحَ الكرسي وسيلةً للإلهاءِ العامِ، لشغلِ الناسِ بصراعاتٍ مقصودةٍ مع شاغلِه، إما يكسرَهم فيبقي أو يكسروه فيتم إلقاؤه في أولِ مخزنِ خردةِ؛ صراعاتٌ تلهي عن الالتفاتِ لمتاعبِ حياةٍ ضنكٍ وواقعٍ سياسي تساوي مع العدمِ. الكرسي إذن ليس وسيلةٌ للتقدمِ والارتقاءِ بالمكان، مجردُ أداةِ تشتيتٍ، بدلاً من البحلقةِ والتركيزِ فيما لا يجوزُ.
نقاطُ ضعفِ أهلِ الكرسي تجعلُ قيادَهم سلساً، تنمرُهم علي زملائهم ومرؤوسيهم يقابلُه منتهي الخنوعِ مع من أجلسوهم، صوتُهم العالي وغلظتُهم في مكانِ الكرسي لا يناظران النعومةِ والحنيةِ مع من بيدِهم خلعِهم. من يتوحدُ في الكرسي لا يعرفُ النقاشَ مع من أجلسَه، منتهي الطاعةِ وأكثرُ، لا يعرفُه أيضاً مع زملائه ومرؤوسيه، فقط أوامرٌ وفرماناتٌ، لا يسمع سوي نفسه ولا يُعجب إلا بها. نفسيةُ شاغلِ الكرسي فيها الاستمتاعُ بإيذاء الغيرِ، التلذذ بالتحكم في خلق الله، فيها جنونُ العظمةِ وتصورُ أن عقاربَ الزمنِ أشارَت إليه وحدِه.
شاغلُ الكرسي عادةً ما يكون واجهةٌ، ينفذُ ما يُملي عليه، لا بد أن يستوفي شكلاً، رجلاً، سيدةً، عجوزاً، شاباً، حسبُ الحاجةِ، الاتجاهُ العامِ، الصورةُ أمام العالمِ، المنظرةُ. يا حبذا لو اجتمع الشكلُ مع المواصفاتِ الشخصيةِ التي أوردناها، إن لم يجتمعوا سيعلو الشكلُ فترةً وتتم بعدها الإزاحةَ عنه. الحكايةُ ليست بهذه الجديةِ، الكراسي واجهاتٌ، مسمياتٌ وظيفيةٌ، صورٌ علي الحوائطِ، لا مصلحةَ عامةَ ولا غيرَه.
في دولٍ تحترمُ الوطنَ والمواطنين لا يعتبرُ الكرسي مغنماً إنما خدمةُ تخضعُ للرقابةِ، لا يشغلُه ذي عوجٍ في مسلكِه أو في نفسيتِه، يستقيلُ إذا أخفقَ، إذا طاشَت تصرفاتُه وانفلَت لسانُه، أما في دولٍ دونِها فإنه يبقي ويبقي ويبقي، ما عليه إلا التمادي في الغي والاستمتاعِ به، طالما لم يجد من يزيحه كَرهاً،

الجمعة، 13 يونيو 2008

.. في التشريفة



فتاةٌ تبكي بحرقةٍ، في الطريق العام، المارةُ يسألونها، تزدادُ صراخاً، ضاعَ عليها الامتحانُ، تبخرَ سهرُ الليالي، أُهدِرَ المجهودُ، الطريقُ مختنقٌ، مُجَمَدٌ، حارٌ، توقفت الحياةُ، خُنِقَ الأملُ، عمداً، في انتظار الموكب. مشهدٌ التشريفةِ يتكررُ، كثيراً، أصبح من بلايا الحياة ونكباتها، الخروجُ إلي الشارعِ محفوفٌ به، في أي وقت، لا اِعتبار عنده لحياةٍ بشريةٍ قد تُفقد، لطيارةٍ قد تطيرُ في موعدِها، لحريقٍ نهمٍ، لأطفالٍ قد يتوهون من أهاليهم.
تُوقَفُ الحياةُ، الألافُ مسجونون، في الشوارعِ، وقوفاً أو داخل مركباتِهم، ممنوعٌ تَحَرُكُهم، عبورُهم من رصيفٍ لآخرٍ، الشوارعُ العامةُ أصبحت مُلكاً خاصاً، البلدُ كلُها. الانفصالُ كارثيٌ بين من يحكمُ والشعبُ، التشريفةُ تؤكدُه، تُزيدُه اِتساعاً، لم يعد ممكناً تقريبُ المسافاتِ. مفهوم حقوق الإنسان لا وجودَ له، ولا حقَ الشعبِ واحترامهِ، ولا الوقتَ من ذهبٍ، ولا العملَ، ولا العلمَ، ولا الحياةَ الإنسانية ذاتِها.
الألافُ ساخطون في سجن التشريفةِ، مُنعزلون عن العالم، لا يعرفون لمحنتِهم نهايةً، ولا متي يصلون لبرِ الأمانِ، خسائرُهم خارجَ الحسابِ. منذ سنواتٍ اِنفجرَ رحِمُ امرأةٍ في إحدي التشريفاتِ، دُمرت حياتُها، بلا ذنبٍ، ليست وحدَها، إنه شعبٌ بأكمله.
التشريفةُ رمزٌ لأسلوبٍ، دليلٌ عليه، الإطالةُ مُرةٌ، كتبتُ ما فيه الكفايةِ، أنا في التشريفةِ، الفتاةُ لا تزالُ باكيةً، المارة علي حَسرَتِهم،،

الأربعاء، 11 يونيو 2008

هنيئاً لك يا محمود



طفلٌ صغيرٌ، غطسانٌ في كرسي كبيرٍ، جالسٌ بجوارِ الوزيرِ، متلقٍ قبلاتِه وابتساماتِه، هو العريسُ، حصلَ علي أعلي الدرجاتِ في اختبارٍ دوليٍ للذكاءِ. من يتباهي بمن؟ الوزير أم الطفل؟ لمن كان التكريمُ من قبل؟ لمنتخبِ حسن شحاتة أم لمن بالأحضانِ أخذوه وفي الصور أحاطوه؟
التقديرُ الدولي سببُ تكريمِ الطفلِ محمود، لو لم يكن دولياً ما كان المهرجانُ. أما التقريظُ الدولي في أي مجالٍ، فسوءُ فهمٍ، مؤمراتٌ، عدمُ تقديرٍ لخصوصيةِ كلِ دولةٍ، هكذا هاجَ الإعلامُ الحكومي بالإشارةِ بعد إدانةِ البرلمانِ الأوروبي لأوضاعِ حقوقِ الإنسانِ في مصر.
تكريمُ محمود لم يتوقف علي تصويرِ الوزيرِ معه، لكنه امتدَ إلي عدمِ الوقوفِ أمامَ عبقريتِه، إلي تأديبِ القانونِ الذي يتجرأ علي سدِ الدروبِ أمام نبوغِه. أصبحَ القانونُ عائقاً، لا بدَ من تخطيه، لا مفرَ من الاستثناءات!! بمنتهي البساطةِ ليسقط القانون، شعارُ دولةٍ لعصورِ الغابِ عادت، قتلٌ وصراعٌ علي الأراضي والعيشِ والكراسي، علي كلِ ما تطوله يدٌ ورجلٌ، استثناءُ محمود أبسط بكثير.
الطفلُ محمود تفوقَ، من فرطِ نبوغِه فضحَ أوضاعٍ بعضُها يذكرُ ببعضِه، إهدارُ القوانين، التمحكُ في انتصاراتِ الآخرين، اللعلعة للإشادةِ الدوليةِ والعويلِ عندما تنقلبُ تأنيباً، تصويرُ الحقيقةِ بما يجعلُ شدةَ البؤسِ نعيماً، نهجٌ يتكررُ وكأن الناسَ في مصر تنسي، لا تفهم. نشرت صحفُ الحكومةِ عن زيادةٍ بإحدي الجامعاتِ لدخولِ أعضاءِ هيئاتِ التدريسِ، بالقراءةِ تبين إنها أساساً لعمداءِ الكلياتِ ووكلائها، وضعٌ يسيء لهم ولا يقدرهم. إنها أيضاً طوابيرُ العيشِ ومظاهراتُ واعتصاماتُ الفقرِ مخفيةٌ وراء صورٍ ملونةٍ وحكاوي عن النجاحِ الاقتصادى والريادةِ ووضعِِ الشعبِ في العيونِ.
آآه منك يا محمود، أيقظتَ المواجعَ بعبقريتِك، فضحتَ زيفَ ما نحن فيه، دستَ بقسوةٍ علي جراحِ القوانينِ التي من فرطِ الإهمالِ تفاقمَت. هنيئاً لك يا محمود، فتحت الطريقَ لكل من سيُداس القانونُ لأجلِ عيونِهم، ما أكثر ما سيظهرُ من عباقرةٍ، هنيئاً لكل من تجملوا علي حسابِك، لكن الأهم إنك كشفت بالجامد أوضاعاً في النازل قوي.
كله ده منك وانت إبن عشرة سنوات، يا تري لما تكبر ماذا سيكون منك؟ ما علينا، اللهم فضفضت، مبروك يا أبو حنف،،

الثلاثاء، 10 يونيو 2008

الفوضي في مصر .. غيرُ خلاقةٍ



شاعَ مصطلحُ الفوضي الخلاقةِ بعد الغزوِ الأمريكي للعراقِ ضمن ما صاغَته كونداليزا رايس وزيرةُ الخارجيةِ الأمريكيةِ. الفوضي المعروفةُ لا يمكنُ أن تكون خلاقةً، الفوضي التي نعيشُها هي الرجوعُ للخلفِ بسرعةِ الصاروخِ الذي لا نصنعُه. دَعنا إذن من الفوضي الخلاقةِ، علي من صاغوها الدفاعُ عنها وشرحهُا وتفسيرُها، علينا أن نتعمقَ فيما نحن فيه من تعثرٍ وتخبطٍ وتدهورٍ وتردٍ. ما وصلَت إليه مصرُ مسئوليةٌ مشتركةٌ بين النظامِ ومعارضيه والشعبَ، علي حدٍ سواءٍ، لا إلقاءَ فيه للتهمِ علي طرفٍ بعينِه، الكلُ شركاءٌ في هذه الفوضي غيرِ الخلاقةِ.
في الستينات، قبل هزيمةِ 1967، كانت مصرُ تحبو في عالمٍ في طورِ التشكيلِ، لم تكن الخريطةُ السياسيةُ قد أخذت شكلَها الحالي، لم يكن للعالمِ مركزُ ثقلٍ واحدٍ، كانت الولايات المتحدةُ الأمريكيةُ والاتحادُ السوفيتي قبلَ تفكُكِه يتشاركان القيادةَ. في ظلِ هذا الوضعِ السياسي تمكنت مصرُ من احتلالِ مكانةٍ سياسيةٍ في ظلِ حمايةِ الاتحادِ السوفيتي المذهبيةِ، مكانةٌ سياسيةٌ لم تتواكب معها تماماً مكانةٌ اقتصاديةٌ وصناعيةٌ، أخذَت شعاراتِ الاتحادِ السوفيتي التي أدَت فيما بعدٍ إلي انحلالِه، حقوقُ العمالِ والفلاحين علي الورقِ وأمام الميكروفوناتِ قابلتها تنبلةٌ في العملِ وتنطعٌ، أجرٌ ومغانمٌ وهميةٌ في مقابلِ ترديدِ شعاراتٍ سياسيةٍ، لا عرقَ ولا مجهودَ بأمانةٍ واخلاصٍ. غابَت الحريةُ، سادَ التطبيلُ، غرَقَت مصرُ في أوهامِ العظمةِ والنصرِ والحضارةِ، حتي كانت الهزيمةُ التي زلزلَت كيانِ الشرقِ الأوسطِ إلي الأبدِ وسحَقت معها مكانةَ مصر.
فترةُ السبعيناتِ، بعد أكتوبر 1973 أعادَت لمصرِ بعضاً من كبرياءٍ مفقودٍ، طمعَ العربُ في الباقي، تتطاولوا عليها، عايروها، وجاءَتهم معاهدةُ السلامِ عام 1977 لتكون فرصةَ عمرِهم للقضاءِ عليها واحتلالِ كرسي قيادتِها في المنطقةِ، لا قادوا ولا عادَت مصرُ لمكانتِها. بدأت شعاراتٌ جديدةٌ في الظهورِ، كالعادةِ بلا دراسةٍ، فجأةً، أصبحَ السلبُ والنهبُ والفهلوةُ رموزاً لمرحلةٍ أفلَت سريعاً دون أن تنتهي.
منذ الثمانينات وحتي الآن، مصرُ تستمرُ في التخبطِ، أوضاعُها الاقتصاديةُ لا تطاوعَها، صناعتُها متخلفةٌ نمطيةٌ، العِمالةُ غيرُ مؤهلةٍ فنياً وأخلاقياً من فرطِ تدليلِها بشعاراتٍ قضَت علي الكتلةِ الشيوعيةِ كلِها، مفهومُ التفاني في العملِ والإخلاصِ فيه فُقِدَ إلي غيرِ رجعةٍ، في كلِ تعاملاتِ المجتمعِ، اِستبدِلَ به شعارُ خُذ الفلوس واجري. سياسياً، استمرَ مسلسلُ تعيينِ من يدينون بالولاءِ، رُغمَ رداءةِ أدائهمُ وانحطاطِ فكرِهم أن لم يكن انعدامُه، أُجلِسَ علي كراسي المسئوليةٍ من هم دونِها، من الطبيعي أن تعمي البصيرةُ عن التخطيطِ للمستقبلِ وأن تُبَددَ المواردَ الشحيحةَ علي الأوهامِ والأحلامِ والمظاهرِ.
سقوطُ شعاراتِ القوميةِ أمامَ المحنِ العاتيةِ التي أضاعَت الأرضَ والوطنَ والفكرَ والكرامةَ فتحَ البابَ واسعاً أمام شعاراتٍ قديمةٍ، أبداً في حالةِ كمونٍ, انتظارٍ، تحينٍ للحظةِ، شعاراتٌ دينيةٍ، لا تعرفُ التسامحَ ولا تعترفُ بالتعددِ ولا تقبلُ بالآخرِ ولا تسمحُ بالحوارِ. غسلَت أدمغةً مطحونةً، تلونَت، المهمُ أن تعلو وتتمكن، ساعتَها ستبطشُ وتقسو، لن ترحم؛ قتلَت، دمرَت، كررِت تماماَ ما أسقطَها منذ مئات السنين، وكأن التاريخَ يعيدُ نفسَه، تاريخُها فقط، أما الأخرون فقد اتعظوا من تاريخِهم وتاريخِ غيرِهم، سادوا بعد أن فهِموا وتمعنوا.
الشعبُ المصري، أيضاً، تغيرَ، باستمرارِ في حالةِ رفضٍ وتذمرٍ وعدمِ ثقةٍ في كلِ ما يُقالُ أو يُفعلُ، من تداولوه لم يراعوه أو يعتبروه، خسروه إلي غيرِ رجعةٍ، كان ولا يزالُ كماً مُهمَلاً في كلِ الحساباتِ، النظامُ ومعارضوه من أصحابِ الحلولِ علي حدٍ سواءٍ، كلُهم يرونَه وسيلةً للسلطةِ، مجردَ أداةٍ، سلماً عليه يصعدون، حجارةً يلقونها علي خصومِهم؛ وقودٌ هو لشعاراتٍ مذهبيةٍ، حياتُه فقدَت قيمتَها، العددُ في الليمون وزي الرز. من فرطِ ما أهملوه وتمادوا في تجاهلِه عاشَ في داخلِ ذاتِه، كلٌ وهواه، منهم من وجدَ في الرجوعِ إلي كهوفِ الفكرِ المذهبي ملاذَه، ومنهم من تاه في صحراءٍ بلا قيودٍ من فكرٍ وأخلاقٍ، لا نظامَ ولا انتماءَ، لا علمَ ولا تخطيطَ، عشوائيةٌ وخزعبلاتٌ، في البيتِ والشارعِ والمصنعِ والمدرسةِ والجامعةِ والشركةِ والمؤسسةِ، في كلِ مكانٍ.
مصرُ تترنحُ، زاغَ بصرُها، تاه منها الأملُ، من قادوها عادوا بها للخلفِ، من يعارضونهم لا يريدون إلا النزولَ بها إلي الكهوفِ والمغاراتِ، مصر لم تعُد مركزَ الاشعاعِ المتفردَ، الأصغرُ منها تخطوها بالتخطيطِ، بالعملِ، بالإخلاصِ، بالمالِ، بكلِ ما فقدته مصرُ ولم تجد له بديلاً، إلا الفوضي،،

الأحد، 8 يونيو 2008

هل نفكر؟



تكوين الرأي، ليس بالأمر الهين، لكنه نتاج قراءات متعددة وخبرات في المعاملات وقبل كل ذلك استعداد شخصي قابل للتنمية والتطوير. ليس كل إنسان بقادر علي التفكير، البعض بطبيعة تكوينه العقلي والنفسي والبيئي تنحصر قدراته في المحاكاة، في الوقوف في طابور لا يعلم أين وجهته. كلما زاد الوعي والثقافة والحرية في مجتمع كلما زادت قدرة أفراده علي التفكير وبناء رأي سليم ناء عن أية مؤثرات ولو كانت براقة عالية الصوت.
إذا كان التفكير نتاج استعداد شخصي وبيئة صحيحة أين نحن منه إذن؟ الإجابة ليست بالعسيرة، إنها ممكنة بمتابعة الصحف علي تنوعها ووسائل الإعلام علي اختلافها والشارع علي اتساعه. لننظر كيف يُقابل أي حدث، كيف يتم تحليل معطياته ودوافعه؛ رد الفعل لكل حدث هو مرآة لحال التفكير في المجتمع، هل هو التفكير العقلي الواعي أم أنه مجرد ترديد نمطي محفوظ يتكرر مع كل حدث ولو اختلف مع ما سبقه؟ التفكير النمطي لا يعد تفكيراً إنما هو راحة من التفكير، سلبية تركن إلي البغبغة بدلاً من مشقة البحث عن الحقيقة.
متابعة ما ينشر ويسمع ويري تدفع للتنقيب بقلق عمن يعملون فكرهم، من يجتهدون ويخاطرون لتنوير عقول أصابها الصدأ من فرط الإهمال. شاعت لدرجة الوباء السطحية البعيدة عن جوهر الأشياء، أُفرِدت لها مساحات شاسعة، فاض غثاؤها، السطحية مرض معد، التفكير لا يصيب إلا صاحبه إذا لم يعلم المجتمع كيف يجعل منه أسلوب حياة.
الصراعات المسلحة في الأندية، تَحول الشارع إلي فوضي يمارس فيها كل ما يهواه، حَصر كل المشكلات في نظرية المؤامرة، انتقاد الولايات المتحدة الأمريكية باعتباره السبيل الأيسر للشهرة والقبول، غض البصر عن مشاكل داخلية حقيقية، كلها نماذج خارج الحصر لتردي التفكير، لاندحاره وانهيار السلوكيات القويمة والمستقبل الواعد. انشغال أجهزة الدولة بقضاياها أعطي انطباعاً بعدم مقدرتها، استغله مناهضو التفكير، كل تراجع يصب في مصلحة معاكسة للدولة كنظام ومجتمع.
ظل التفكير خطراً حاربته الأنظمة المتسلطة علي اختلاف شعاراتها، أطفأته بالحديد والنار والظلام؛ انقلب السحر علي الساحر، علي الأنظمة ذاتها، حظر التفكير أخرجها عن العصر، أصبحت لقمة سائغة لقوي عاتية متربصة، أزاحت من أزاحت ودبرت بتفكير انتظاراً للحظة.
عالم التفكير ليس في الشعارات النمطية، إنه مقدرة تُنمي في المجتمعات السليمة في ظل أنظمة حقيقية، إنه تمييز الحق عن الباطل المتشح بالحق، إنه رؤية كل الحقيقة، فيه سلامة المجتمع شعوباً وأنظمة،،